منذ عدة أيام أعلنت "مارجريت بيكيت" وزيرة الخارجية البريطانية الجديدة أن تسليم السلطة من "تحالف الراغبين" الذي تقلص كثيراً عما كان عليه في البداية إلي الجيش والشرطة العراقيين سيستكمل خلال ال12- 18 شهراً القادمة. ليس هناك جديد فيما قالته الوزيرة.. فهذا هو ما كان متوقعاً تقريباً، ولكن تصريحها غطي علي الموقف الأمني المرتبك في العراق، والبعيد كل البعد عن أن يكون مرضياً كما تشير كافة الظواهر المسجلة علي الأرض. وفي الثالث والعشرين من يونيو أدلي "ديفيد كاميرون" زعيم حزب المحافظين البريطاني، بحديث في برنامج تليفزيوني قال فيه إنه لا يزال علي اعتقاده بأن مشاركة بلاده لأمريكا في غزوها للعراق كان هو الشيء الصحيح، وأنه كان قد صوت لصالح ذلك في مجلس العموم. ولكن السيد كاميرون يتناسي أنه قد أصبح في موضع الأقلية اليوم، وأن هناك ثلاثة بريطانيين من بين كل عشرة هم الذين يشاطرونه رأيه في الوقت الراهن، علاوة علي أن معظم ناخبي حزب العمال يعتقدون أن غزو العراق كان خطأً من الأساس وما كان يجب أن يتم، وأن معظم الناس في بريطانيا قد أصبحوا مروعين بسبب مستوي العنف المستمر والمتصاعد في العراق، ويريدون سحب الجنود البريطانيين الذين يبلغ عددهم 7,200 جندي في أسرع وقت يمكن فيه، وبشكل لائق. وهناك اعتقاد واسع النطاق في الأوساط البريطانية في الوقت الراهن مؤداه أن الوضع في العراق قد تحول إلي مأزق حقيقي وأن الخيار الأفضل هو القيام بسحب القوات البريطانية من هناك. وقبل أن يمضي وقت طويل علي تصريح "مارجريت بيكيت" كان الرئيس العراقي جلال الطالباني قد أدلي بتصريح، في 20 يونيو، قال فيه:"أعتقد أنه بحلول نهاية هذا العام سيكون هناك العديد من الأماكن التي يمكن إحلال القوات العراقية محل القوات الأجنبية المتواجدة فيها حيث يمكن عندئذ لهذه الأخيرة أن تنسحب إلي قواعد تقع خارج المدن، إلي أن يأتي الوقت الذي نكون فيه قادرين علي أن نقول لهم: نرجوكم العودة إلي بلادكم". ومما يجدر ذكره في هذا السياق أيضاً، أن "تحالف الراغبين" هذا كان قد بدأ في التفكك علي مدار العام الماضي مما شكل قلقاً مستمراً للأمريكيين والبريطانيين، حيث قامت كل من اسبانيا، وأوكرانيا، وهولندا، وتايلاند، والمجر، وهندوراس، وجمهورية الدومنيكان، ونيكاراجوا، والبرتغال، ونيوزيلندا، والفلبين، والنرويج، وبلغاريا، بسحب جزء من قواتها أو سحب تلك القوات كلها من العراق. وفي العشرين من يونيو أعلن رئيس الوزراء الياباني "جونيشيرو كويزومي" أن الجنود اليابانيين الموجودين في العراق والذين يقومون بمهام غير قتالية هناك، ستتم إعادتهم إلي الوطن بحلول منتصف شهر يوليو. لبعض الوقت كانت هناك مناقشات تدور بين العراقيين وبين الأمريكيين والبريطانيين وبعض أعضاء التحالف الآخرين، حول المحافظات التي يمكن أن يتم سحب جنود التحالف البالغ عددهم 150 ألفاً منها (135 ألفاً منهم من الأمريكيين)، وكذلك الطريقة التي يمكن بها إتمام ذلك. وليس هناك ما يدعو للدهشة أن المحافظات الكردية الثلاث في الشمال تليها الثلاث المحافظات الواقعة في قلب مناطق الشيعة الواقعة جنوب بغداد، قد تصدرت قائمة المحافظات التي يمكن سحب جنود التحالف منها. ففي جنوب العراق سيتم تسليم محافظة المثني التي كانت توجد بها قاعدة اليابانيين، والتي كانت تتم حمايتها كذلك من قبل 170 جندياً بريطانياً في بحر أسابيع قليلة. أما محافظة ميسان التي يوجد فيها 800 جندي بريطاني في الوقت الراهن فستكون هي المحافظة التالية التي سيتم تسليمها إلي القوات العراقية علي أن تتبعها محافظة ذي قار حيث كانت تتمركز القوات الإيطالية التي تقرر إعادتها إلي بلادها بعد تغيير الحكومة هناك. هذه المحافظات الثلاث تعد من المحافظات التي يسودها هدوء نسبي وهو ما يختلف عن الوضع في البصرة التي تمثل مشكلة كبيرة. فمنذ أيام قليلة أخبر الليفتنانت جنرال البريطاني (فريق) "نيك هوتون" لجنة الدفاع في مجلس العموم بأن الوضع الأمني في البصرة التي تعتبر عاصمة جنوب العراق آخذ في التدهور بشدة، وأن المدينة تشهد المزيد من الاشتباكات بين الجماعات والمليشيات الشيعية المتناحرة. وفي منتصف شهر مايو كان "ديس براون" وزير الدولة البريطاني للشئون الدفاعية الذي بدأ أداؤه يقلقني قد زار البصرة ليعلن بعدها أن: "البصرة هادئة والتلميحات بأن المدينة -بطريقة من الطرق- قد خرجت عن نطاق السيطرة، هي تلميحات سخيفة". بعد تلك التصريحات بأسبوعين كان نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي قد زار البصرة ليعلن أثناء زيارته حالة الطوارئ فيها متعهداً باستخدام أسلوب القبضة الحديدية لسحق عصابات سرقة الوقود وفرق الموت. وقد علمت في هذا الشأن أن معظم القوات البريطانية الموجودة في جنوب العراق ستتم إعادة توزيعها في البصرة حيث تم تواً تقديم خطة أمنية جديدة لتطبيقها في المدينة. وقد ذهبت افتتاحية صحيفة "التايمز" في الحادي والعشرين من يونيو إلي القول بأنه "لا يمكن ترك العراق للإرهابيين الساديين". وفي اليوم السابق (20 يونيو) كانت القوات الأمريكية قد عثرت علي جثتي جندييها المختطفين وقد فُصلت رأساهما وتعرضا لتعذيب بشع. وعلي ما يبدو أنهما قد تعرضا لذلك العمل الوحشي بناء علي أوامر مباشرة للقائد الجديد ل "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" والذي ظهر عقب مصرع قائده السابق الأردني أبو مصعب الزرقاوي. في المرحلة الحالية يعتمد سحب القوات علي الأسلوب الذي ستؤدي به الحكومة العراقية التي جاءت بموجب انتخابات سليمة وتمثل السُّنة والشيعة والأكراد مهامها. ويذكر هنا أن مخاض تشكيل تلك الحكومة كان صعباً حيث احتاج الأمر إلي عدة شهور قبل أن يتم الاستقرار علي تشكيلتها. وخلال تلك الفترة من اليقين والافتقار إلي قيادة وطنية حقيقية تمكن المتمردون من تنفيذ هجمات والتشدق بها. وعلي الرغم من كل ذلك فإن الأمر الذي لاشك فيه، وكما يبدو أمامنا الآن، هو أن رئيس الوزراء العراقي الجديد نوري المالكي أفضل كثيراً من سلفه في المنصب، وأن الوزراء العراقيين في الحكومة الجديدة قد تمكنوا من المحافظة علي رباطة جأشهم في وجه العنف المتصاعد. وفي اعتقادي أن القوات البريطانية لن تضع حداً لحالة عدم الاستقرار والافتقار إلي الأمن السائدة حالياً وأن الذي يستطيع القيام بذلك هم العراقيون أنفسهم، وفي المقدمة من ذلك ساستهم وجنودهم وشرطتهم الوطنية.