يؤكد تاريخ الأسلحة النووية منذ 1945 أنها تفرض شكلاً خاصاً من التفكير، حيث عمل منظرو الأسلحة النووية الأمريكية في الستينيات، مثل "هيرمان كان"، علي تطوير تصميمات غريبة أحياناً للطريقة التي ينبغي بها استعمال هذه الأسلحة، غير أن التأثير الحقيقي لعملهم (وأحياناً القصد منه) كان في حقيقة الأمر الردع، وجعل اللجوء إلي الاستخدام الفعلي للسلاح النووي ضرباً من المستحيل. والحقيقة أن الاستعمال العملي الوحيد الممكن، علي أرض الواقع، لهذا النوع من القوة النووية التي يفترض أن إيران يمكن أن تصنعها يتمثل في ردع أي هجوم خارجي محتمل علي من يمتلك هذا السلاح، ومن هنا يجمع معظم الاستراتيجيين علي الطابع "الردعي" الحصري تقريباً للأسلحة النووية. ذلك أنه حتي الولاياتالمتحدة نفسها سيتعين عليها التعاطي مع إيران النووية بغير قليل من الحيطة والحذر، ليس من باب الخوف علي نيويورك أو واشنطن، وإنما نظراً للدمار الذي يمكن لأي هجوم نووي أن يخلفه في أي مكان، ونظراً لأن حجم تفوق القوة الأمريكية سيكون عامل ردع وخطراً في الوقت نفسه. والواقع أن الولاياتالمتحدة تتوخي الحذر في التعامل مع كوريا الشمالية لهذا السبب بالذات، وليس لأي سبب سياسي أو استراتيجي آخر. قد تصبح إيران، لو قدر لها أن تصبح قوة نووية إسلامية إلي جانب باكستان، والقوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط علاوة علي إسرائيل، لاعباً دولياً وإقليمياً رئيسياً _وإن كان ذلك لوقت غير طويل علي الأرجح. ذلك أنه من شبه المؤكد أن دولاً عربية عديدة إضافة إلي تركيا سترغب هي الأخري في الحصول علي قوة مماثلة، بالرغم من السلبيات والأخطار الكبيرة، والافتقار إلي تفوق حقيقي منتظر يمكن أن تحققه في هذا المجال. وليس امتلاك سلاح نووي هو نهاية المطاف فيما يتعلق بوزن دولة ما أو الاستقرار الإقليمي في المحيط الدولي القريب منها. ولعل أقرب مثال هنا حالة الهند وباكستان فما زالتا في وضع غير جيد في فيما يخص علاقاتهما الثنائية ومع ذلك فكلتاهما تمتلك الأسلحة النووية. ولأن كلاً منهما تعرف ذلك فهما حريصتان علي توخي الحذر الشديد حيال كل شيء قد يؤول علي أنه تهديد للطرف الآخر. أما بالنسبة للصين النووية، التي لها نزاع حدودي مع الهند، فربما تكون أيضاً قوة الهند النووية عامل استقرار إلي جانبها، غير أنه عامل باهظ الثمن جداً للطرفين في كل الأحوال. والحقيقة أن التجاذبات الحادة التي قامت حول برنامج إيران النووي خلال الأشهر الأخيرة تعزي بالأساس إلي الدعاية أو عدم الدقة، قبل أن يتغير الموقف الأمريكي علي نحو مفاجئ. فلا التهديدات الأمريكية والإسرائيلية، ولا الجهود الأوروبية من أجل التفاوض بشأن وقف البرنامج الإيراني أقنعت طهران بضرورة التخلي عن مساعيها النووية، ما دامت الولاياتالمتحدة مستمرة في إطلاق تهديدات تجعل الزعماء الإيرانيين يشعرون بالخطر، علي مستقبل نظامهم. ويتمثل التغير في السياسة الأمريكية الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية كندوليزا رايس في عرض يقوم علي انضمام واشنطن إلي المفاوضات الأوروبية مع طهران في حال علقت إيران بشكل تام يمكن التحقق منه أنشطة تخصيب اليورانيوم، وفي حال قبلت روسيا والصين فرض عقوبات علي إيران إذا رفضت طهران العرض الأمريكي. وفي حال كان الجواب بالإيجاب، فمن المرتقب أن تجلس الولاياتالمتحدة إلي طاولة المفاوضات إلي جانب شركائها الأوروبيين وتلتقي بممثل إيران، وحينها سيتحقق الحوار الأمريكي الإيراني المباشر الذي طالما طالب به الإيرانيون، أنفسهم دون جدوي خلال السنوات الماضية. إلي ذلك، اقترحت رايس تقديم "حزمة عروض" تبين بوضوح الخيارات الإيجابية والسلبية إلي إيران كتعبير عن موقف مشترك للمجتمع الدولي، علي أن تقوم طهران بالاختيار. وفي حال كان الاختيار "إيجابياً" وانضمت واشنطن إلي المحادثات، فمن المرجح أن يلي ذلك رفع للحظر الأمريكي المفروض علي إيران والساري منذ ستة وعشرين عاماً، كما يفترض أن يعقبه المزيد من المفاوضات بشأن ضمانات متبادلة تتعلق بالأمن الإقليمي، إضافة إلي المساعدة التي عرضها الأوروبيون علي الإيرانيين بخصوص برنامج إيران النووي ومزايا ومحفزات كثيرة أخري. ولئن وصفت وكالة الأنباء الإيرانية المقترح الأمريكي بالدعاية، فإن الصحافة الفرنسية وصفت قبول كندوليزا رايس إجراء حوار أمريكي إيراني مباشر بأنه مرونة "كبيرة" و"تليين" إيجابي للموقف الأمريكي، الذي كان حتي وقت قريب متشدداً بشكل لا غموض فيه في كل ما يتعلق بإيران. والحال أن المقترح الأمريكي الجديد ليس سخياً من وجهة نظري الخاصة، إلي الدرجة التي يمكن أن يتخيلها المرء، ذلك أن إجراء المفاوضات المباشرة مرهون بقيام طهران بما يفترض أن يكون نتيجة للمفاوضات نفسها، ألا وهو ثني إيران عن مواصلة برنامجها النووي. وهناك تأويلان ممكنان لهذا التحول في الموقف الأمريكي، يتمثل أولهما في افتراض أنه حقيقي ويمكنه أن يكلل بالنجاح، أما الثاني فهو أنه من المتوقع، أو المقصود منه، أن يبوء بالفشل. وبالتالي تمهيد الأجواء المناسبة لكسب تأييد الحلفاء الأوروبيين وبلدان أخري بشأن فرض عقوبات ضد إيران وربما شن هجوم محتمل عليها مستقبلاً، بعد أن تبدو في الصورة كل السبل وكأنها قد استنفدت معها. غير أن ثمة تقارير أوروبية تفيد بأن الإسرائيليين، الذين يعدون الأكثر اطلاعاً علي استعدادات إيران للرد علي هجوم أمريكي أو أمريكي إسرائيلي محتمل، ليسوا قلقين عموماً بخصوص هذه المواجهة العسكرية. إلي ذلك، تنشر مجلة "أمريكان بروسبيكت" في عددها المقبل مقالاً لثيودور سورونسون، المستشار السابق للرئيس جون كينيدي، وزميل آخر له هو آدام فرانكل، المسئول السابق بوزارة الخارجية. ويتناولان في المقال أزمة إيران، وقد كتب علي ما يبدو قبل إعلان وزيرة الخارجية رايس الأخير عن استعداد الولاياتالمتحدة للحوار مع طهران. ويعقد المقال مقارنة بين الأزمة الإيرانية الحالية وأزمة الصواريخ الكوبية في 1962، التي كان سورونسون مشاركاً فيها بطبيعة الحال. ويحذر من "خيار القصف" _حيث تعرض الرئيس كينيدي لضغوط من أجل اعتماده ولكنه رفض موصياً بضرورة مواصلة المفاوضات التي آتت أكلها في الحالة الكوبية، كما هو معروف. غير أن سورونسون وفرانكل ختما مقالهما بالقول إن "ثمة أخباراً مؤداها أن الرئيس بوش يريد حرباً مع إيران علي خلفية أسلحتها النووية". والحقيقة أن آخرين أشاروا إلي هذا الأمر من قبل، غير أن سورونسون رجل جاد وحسن الاطلاع علي كل حال. هل هذا صحيح حقا؟ الواقع أننا إذا أخذنا التحول في السياسة الأمريكية علي محمل الجد، فسنجد أنه، في الحقيقة، ليس تحولاً البتة