في نفس الوقت الذي تؤكد فيه تصريحات رسمية وقمم عربية عديدة علي رفض برنامج ايران النووي، وفي نفس الوقت الذي تكاد تتبدي فيه قسمات شماتة عربية واقليمية، وذلك انتظارا وترقبا لعمل عسكري امريكي ما ضد برنامج ايران النووي، وفي ظل عجز عربي واضح عن الاسهام بجدية في الازمة النووية الايرانية، التي ترددت اصداؤها بعد اعلان ايران عن نجاحها المباغت في تخصيب اليورانيوم، وفي اطار حشد سياسي واعلامي امريكي جارف استمر لاسابيع عديدة، ما بين وعيد وتهديد وتخويف وابتزاز، حدث ما لا يمكن الا ان يحمد عقباه، ففي تطور مفاجئ اعلنت الادارة الامريكية عن استعدادها للانضمام الي المباحثات التي يجريها الاتحاد الاوروبي مع ايران بشأن برنامجها النووي، وان كان ذلك الاعلان قد اشترط بداية وقف ايران لكافة عمليات تخصيب اليورانيوم، مع السماح لمفتشي وكالة الطاقة الذرية بالعمل بحرية كاملة للتحقق من عدم سعي ايران لامتلاك سلاح نووي! إذن فهناك تراجع امريكي واضح عن لهجة الاستعلاء والاستقواء التي كانت تصدر عادة عن واشنطن، ومن ثم عدم امكانية حل الخلاف معها بالوسائل الدبلوماسية، ويمكن التحقق من ذلك عند اعادة قراءة الذي صدر عن الجانب الامريكي بهذا الخصوص والذي اشتمل علي: 1 اعلان وزيرة الخارجية الامريكية، ومن بعدها الرئيس الامريكي بنفسه وبعد نصف ساعة فقط من تصريحات وزيرة خارجيته، عن اعتقادهما بضرورة وأهمية حل الخلاف مع ايران بالوسائل الدبلوماسية، وانضمام امريكا لتلعب دورا قياديا في حل الازمة الايرانية التي يدير رحاها الاتحاد الاوروبي حاليا. 2 اعلان الرئيس الامريكي عن احترام امريكا للشعب الايراني وتراثه وتاريخه، واعرابه عن امله في استجابة ايران لمطالب المجتمع الدولي، ونصحه لها بعدم انفاق اموالها علي برنامج نووي، بل ان تنفق اموالها علي تحسين مستوي معيشة الشعب الايراني! 3 التلويح بحزمة الحوافز التي سوف تكون من نصيب طهران حالة موافقتها علي الشروط الامريكية. 4 ان التحول المفاجئ في الموقف الامريكي، وتخليه الدرامي عن الرفض الصارم في الماضي القريب للتباحث مباشرة مع طهران، هو لرغبة الادارة الامريكية في التخلص مما وصفته وزيرة الخارجية الامريكية "بآخر المبررات" التي تروج لها اطراف دولية عديدة لتعثر المفاوضات التي تجري بين طهران والترويكا الاوروبية. 5 ان الادارة الامريكية لا تزال تمارس لعبة "العصا والجزرة" حتي في موقفها الاخير، لا اقول من مجرد مشاركتها في المشاورات مع طهران، بل من قيادتها لها، فبينما تلوح الوزيرة الامريكية بالحوافز او "الجزرة" التي يمكن لايران الحصول عليها عند رضوخها للمطالب الامريكية، الا انها لم تنس ان تذكرها ايضا بأن الولاياتالمتحدة ستبقي جميع الخيارات مطروحة بما فيها العمل العسكري "العصا" ضد ايران. علي اية حال، فإنه من الضروري في مثل تلك الظروف الاقليمية المرتبكة، ان نثمن التراجع الامريكي، وان ننتظر القادم الذي يمكن ان يحول دون ولوج منطقتنا العربية في اتون حرب او صراع عسكري جديد، ايا كانت صورية دوافعه او حماقة اهدافه. وفي هذا السياق لا يمكن لنا اغفال دور كل من روسيا والصين، حيث عارضتا بشدة صدور قرار دولي من مجلس الامن بفرض عقوبات علي ايران، كما عارضت ربما قيام الولاياتالمتحدة بأي اعمال عسكرية يكون من شأنها التأثير بالسلب علي برنامج ايران النووي، خاصة في ظل اعتقادهما بسلمية دوافع وتوجهات هذا البرنامج وعدم جنوحه للتطور في اتجاه انتاج اسلحة نووية. العرب وايران النووية عبرت دوائر رسمية عربية عديدة عن قلقها الشديد من تحول ايران الي قوة نووية، يمكن ان تكون لاعبا رئيسيا في الساحة العربية كلها، ويؤكد الاستاذ صلاح الدين حافظ علي ان قلق الحكومات العربية بذلك الخصوص، قد يكون حقيقيا وطبيعيا في جزء منه، الا ان الجزء الاخر له، هو قلق مستورد من الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد الاوروبي، اللذين يخوضان حربا اعلامية سياسية نفسية لعرقلة المشروع او البرنامج النووي الايراني، وذلك حتي لا يصبح ذلك البرنامج منافسًا لهما او لغيرهما، الا ان كثيرين يعتقدون ان ذلك القلق المتعاظم لا وجود له عند الشعوب العربية والاسلامية، التي تحلم بأن يكون السلاح النووي الايراني معادلا ورادعا علي الاقل للسلاح الاسرائيلي، ويستطرد الاستاذ حافظ "في لهجة لا تخلو من اندهاش واستغراب" في الحديث عن الرفض المصري او العربي للبرنامج النووي الايراني، في ذات الوقت الذي يخفت فيه الصوت العربي تماما عن الحديث عن البرنامج النووي الاسرائيلي، بل وعن الترسانة النووية الاسرائيلية، التي يقع اهم مفاعلاتها النووية علي بعد كيلو مترات قليلة من حدودنا الشرقية في "ديمونة" "الاهرام 19/4/2006". وفي سياق متصل، كتب الاستاذ سلامة احمد سلامة في عموده الهام بالاهرام بتاريخ 25/4/2006، حول الاوضاع غير المريحة في كافة الملفات الشائكة التي تحيط بمنطقتنا العربية وخاصة بالنظر الي عدم امتلاك الدول العربية لفكر سياسي او استراتيجيات واضحة للتعامل معها، اذ يبدو أننا نستريح لترك تلك الملفات في ايد غير مريحة، حيث نرتمي عند الاقدام الامريكية، تاركين لها الحق في البحث في حلول مريحة لنا ولها، فعدد من الدول العربية قد ألف التعايش بسلام مع القوة النووية الاسرائيلية، ومن ثم فإنه لا يريحهم ان تظهر قوة نووية اخري مثل ايران، فإذا كنا قد عجزنا عن التعامل مع قوة نووية واحدة، فكيف لنا ان نتعامل مع الثانية "الايرانية" او مع الاثنتين معا؟! ويحذر الكاتبان معا من مغبة انسياقنا وراء التحريض ضد طهران والتخويف من طموحاتها في المنطقة العربية في نفس الوقت الذي نتقزم فيه امام اسرائيل. ولعل مثل تلك الكتابات الهامة، قد لفتت الانتباه، حيث لاحظنا ان الخطاب الرسمي العربي قد بدأ في الآونة الاخيرة وبالذات في الايام القليلة الماضية في الاشارة الي ضرورة اخلاء المنطقة كلها من اسلحة الدمار الشامل وضبط التسلح النووي، وبالتالي اجبار جميع الاطراف بما فيها اسرائيل علي الخضوع لاحكام المجتمع الدولي في هذا الشأن. الحل الدبلوماسي هوالخيار الوحيد دعونا نتفق من البداية، ان مجرد تراجع واشنطن في موقفها المبدئي المتشدد الرافض لقبول فكرة التفاوض المباشر مع طهران، انما يمثل في الحقيقة انتصارا سياسيا ايرانيا لا يقبل الشك في ادارة ايران لازمتها لقد نجحت طهران، بفعل عوامل ومقدرات داخلية كامنة فيها، في توظيف ظروف اللحظة الراهنة اقليميا ودوليا، في فرض قضية ضرورة التعامل معها دبلوماسيا وعلي الرغم من كل ذلك، فإننا نجد انفسنا ازاء اجتهادات مختلفة في تقدير وتقييم التغيير الاستراتيجي الذي احدثه نجاح التجربة التي اجرتها ايران في التاسع من ابريل 2006 تخصيب اليورانيوم، فهناك من يعتقد باتسام التجربة الايرانية بالمحدودية الشديدة، وبأنها استثمرت اموالا طائلة في مجال التخصيب بدون اي جدوي اقتصادية حقيقية، وان نجاحها المحدود في تخصيب اليورانيوم قد لا يؤدي بالضرورة وتلقائيا الي انتاج السلاح النووي، وان حديث طهران حول دخولها للنادي النووي العالمي، ليس اكثر من مبالغة دعائية، والاهم من ذلك ان اعلان طهران عن تمكينها من تخصيب اليورانيوم، لا يعد عاملا داعما لموقفها في ازمتها النووية مع الغرب، بل انه علي العكس من ذلك يمكن ان يلحق بها مزيدا من الضرر! (د. أحمد ابراهيم ملف الاهرام الاستراتيجي مايو 2006). وفي المقابل فإن هناك من يعتقد بأن ايران قد تكون الدولة الثانية التي ستدخل السلاح النووي الي المنطقة بعد اسرائيل، ولقد تعددت الكتابات الامريكية المبشرة بوجود نوايا حقيقية لدي ايران للسعي نحو برنامج سلاح نووي، وعموما فإن البرنامج النووي الايراني يعد من اكثر البرامج النووية اثارة للجدل والاحتمالات في الشرق الاوسط، حيث يشير ذلك البرنامج والكلام للدكتور/ محمد عبد السلام اشكاليتين هامتين وردتا في دراسته الشاملة حول مشكلات اقامة منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الاوسط (وقد نشر الدراسة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام)! أما الاشكاليتان فهما: أولا: ان هناك غموضا حقيقيا في مسألة النوايا النووية الايرانية. ثانيا: ان هناك معلومات محددة حول انشطة نووية ايرانية غير معلنة، ومن ثم فالباب مفتوح لاحتمال ظهور "سلاح نووي" جديد في منطقتنا لم يكن في الحسبان. واذا كنا قد قرأنا مرارا مؤخرا ما ورد في حديث الاستاذ فهمي هويدي مع الدكتور لاريجاني امين المجلس الاعلي للامن القومي الايراني، بذلك الخصوص، والذي اكد فيه علي ان البرنامج النووي الايراني قد تم تشويهه بالكامل عمدا في العالم الخارجي، بما في ذلك العالم العربي، لقد اكد الدكتور لاريجاني علي امور ثلاثة هامة وهي، ان هذا الذي ينكرونه علي ايران الآن قد قبله الغرب من الشاه منذ نحو اربعين عاما، وانهم في ايران ذهبوا الي ابعد مدي ممكن لطمأنة المجتمع الدولي، الا ان ذلك لم يعجب المتربصين بهم، كما ان لديهم فتوي من الامام "الخوميني" تحرم انتاج وتخزين واستخدام اسلحة الدمار الشامل (الأهرام 25/4/2006). واذا كان لي في نهاية حديثي من اضافة في الموضوع، فإنه لا يسعني الا انني اؤكد لحضراتكم انني اثق وأصدق واطمئن كثيرا لكل ما يصدر عن الاستاذ هويدي وكذلك لما نقله سيادته عن لسان مضيفه في طهران