هناك جدل واسع في مصر وفي الدول العربية حول إلغاء العقوبات السالبة للحرية وعدم الاسراف في عقوبة الغرامة بالنسبة لجرائم الصحافة، ويقول المعارضون لعدم إلغاء هذه العقوبات بأن "الصحافة ليست علي رأسها ريشة" أي يجب الا تتمتع بامتياز يفوق امتياز الفرد العادي عند التعبير عن رأيه. وهذا الأمر لم يعد مقبولا علي المستوي الدولي لأن الصحفي أو الكاتب هو اكثر الناس تعرضاً للملاحقة، وأن الصحافة يجب أن تتمتع بامتياز وليس حصانة عند نشر الآراء أو المقالات أو التحقيقات أو الخبر حتي ولو كان فيه شطط، يفوق ما يتمتع به الفرد العادي. وتستعرض هذه الدراسة الحدود التي وضعها القانون الدولي علي القيود العقابية التي تفرض علي حرية الرأي والتعبير سواء كانت تلك الحدود تنبع مباشرة من القانون الدولي الذي يضمن ذلك الحق، أم تقرها القوانين الدولية والفقه المقارن. ويتضمن ذلك شرط ألا تكون تلك القيود مفرطة في الغموض أو غير موضوعية، وألا يتم تطبيق القانون الجنائي في الأمور التي يمكن ان تسري عليها قوانين أقل تأثيراً علي الحرية الشخصية ومنها القانون المدني وأن يتم التحديد الدقيق لنطاق القيود، ولا سيما في الأمور التي تتعلق بالأمن القومي والنظام العام، وألا تكون العقوبات مجحفة أو مبالغا فيها. يقتضي القانون الدولي ان تكون القيود المفروضة علي حرية التعبير "منصوصا عليها في القانون"، وأن يشمل ذلك ألا تكون تلك القيود شديدة الغموض. قضاء المحكمة الأوروبية: وقد ذكرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ECHR فيما يتعلق بشرط كونه "منصوصا عليه في القانون" الذي تتضمنه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان: (أ) أنه لا يمكن اعتبار القاعدة بمثابة "القانون"، ما لم يتم صياغتها بدقة كافية لتمكين المواطن من التحكم في سلوكه، إذ ينبغي ان يكون قادراً علي التنبؤ بالعواقب التي قد تترتب علي تصرف معين، وأن يتم ذلك من خلال إمداده بالنصح والإرشاد المناسبين ان لزم الأمر. وتخضع النصوص الغامضة للعديد من التفسيرات، سواء من جانب السلطات الحكومية أو من جانب من يقعون تحت طائلة القانون. ونتيجة لذلك، يتم اساءة استخدام تلك النصوص، كما قد تسعي السلطات الحكومية لتطبيقها في مواقف لا تتعلق بالغرض الاساسي من القانون، أو بالغرض الشرعي المطلوب تحقيقه. كما لا توفر النصوص الغامضة المعلومة الكافية أو الدقيقة عن السلوك المحظور القيام به. ويترتب علي ذلك أن يكون لتلك النصوص تأثير مخيف، وغير مقبول علي حرية التعبير، حيث يسعي للابتعاد عن الأمور التي يحتمل ان تضعهم تحت طائلة تلك النصوص تجنباً للانتقاد. من الأمور المسلم بها ان القانون لا يمكن ان يكون غامضاً. وغير محدد، وخاضعاً بالكامل للصلاحيات التقديرية، كما يجب ان يكون واضحاً ومفهوماً. ولا يمكن ترك القيود المفروضة علي حرية التعبير خاضعة لهوي احد المسئولين إذ ينبغي تحديدها بدقة أو عدم اعتبارها قانوناً. فرض أقل قدر من القيود علي الحقوق: إن ضمان حرية التعبير يقتضي قيام السلطات الحكومية بتقليل القيود المفروضة علي الحقوق إلي الحد الأدني، سعياً لتحقيق الأهداف الاجتماعية المشروعة. ويعني ذلك قيام السلطات الحكومية بفرض أدني قدر ممكن من القيود المؤثرة علي الحرية الشخصية تحقيقًا لتلك الأهداف، والتي تشمل تطبيق نصوص القانون المدني بدلاً من القانون الجنائي طالما كانت مناسبة. وينطبق ذلك تحديداً علي موضوع التشهير، إذ اصبح من الجلي الآن ان ذلك لا يستدعي تطبيق القوانين الجنائية. وقد اتضح من تجارب العديد من الدول في جميع انحاء العالم أن تطبيق القوانين المدنية قد أثبت فعالية في حالات النيل من سمعة الأفراد. إن عدم مشروعية القوانين الجنائية التي تتناول قضايا التشهير تحظي بتأييد واضح في التقارير الصادرة عن الهيئات الرسمية لحقوق الإنسان. فعلي سبيل المثال: صدر عن المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن حرية الرأي والتعبير تصريحاً قاطعاً يشير فيه إلي ع م مشروعية عقوبة السجن في قضايا التشهير. وفي تقريره الصادر عام 1999 والمرسل إلي لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، صرح قائلاً: لا ينبغي توسيع نطاق العقوبات المفروضة في قضايا التشهير، حتي لا تتسبب في حدوث تأثيرات مخيفة علي حرية الرأي والتعبير، وعلي حق السعي وراء المعلومات والحصول عليها ونشرها، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال تطبيق القوانين العقابية، ولا سيما عقوبة السجن. وفي تقريره الصادر عام 2000 وعام 2001، ذهب المقرر الخاص إلي أبعد من ذلك، عندما دعا الدول إلي إلغاء كافة القوانين الجنائية التي تتناول قضايا التشهير لصالح القوانين المدنية التي تتناول تلك القضايا. وفي كل عام تعرب لجنة حقوق الإنسان في قرارها الصادر بشأن حرية التعبير عن قلقها بشأن "إساءة استخدام النصوص القانونية المتعلقة بقضايا التشهير الجنائية". كما عبرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والمسئولة عن الاشراف علي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عن قلقها مراراً وتكراراً في اطار دراستها للتقارير الدورية عن الدول بشأن إمكانية تطبيق عقوبة الحبس في قضايا التشهير. وفي يوليو 2000، نشرت "المادة 19" تعريف التشهير: مبادئ حرية التعبير وحماية السمعة، وهي مجموعة من المبادئ حول كيفية المواءمة بين حق حرية التعبير، وضرورة حماية سمعة الفرد. وقد جاءت هذه المبادئ كنتائج لسلسلة من الدراسات والتحليلات والمشاورات المستفيضة تحت إشراف "المادة 19"، والتي شملت عقد عدد من الندوات وورش العمل علي المستويين الوطني والدولي. وينص المبدأ رقم 4(أ) علي: (أ) يجب ان يتم إلغاء القوانين الجنائية المتعلقة بقضايا التشهير وأن يحل محلها إذا دعت الضرورة قوانين مدنية تتناول تلك القضايا، ويجب اتخاذ الإجراءات التي تضمن التنفيذ التدريجي لهذا المبدأ في الدول التي لا تزال تطبق القوانين الجنائية المتعلقة بقضايا التشهير. ومع ذلك، وإقراراً بحقيقة وجود العديد من الدول التي لا تزال تطبق القوانين الجنائية المتعلقة بقضايا التشهير ينص المبدأ رقم 4 كذلك علي: (ب) (4): إن الاحكام بالسجن، أو السجن مع إيقاف التنفيذ أو الحرمان من ممارسة حق التعبير من خلال أية وسيلة من وسائل الإعلام أو حق العمل بالصحافة أو بأية مهنة أخري، أو المبالغة في فرض الغرامات أو العقوبات الجنائية القاسية، ينبغي عدم استخدامها بأي حال من الأحوال كعقوبة علي خرق القوانين المتعلقة بالتشهير، بغض النظر عن مدي جسامة أو وقاحة العبارات التشهيرية. وقد قام المفوضون الدوليون الثلاثة الذين يتعاملون مع قضايا حرية التعبير، وهم المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن حرية الرأي والتعبير، ومندوب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا OSCE بشأن حرية وسائل الإعلام، والمقرر الخاص لمنظمة الولاياتالأمريكية OAS بشأن حرية التعبير بالمصادقة علي هذه المبادئ إلي جانب عدد كبير من الهيئات والأفراد. كما أعربت الهيئات الإقليمية التي تتعامل مع قضايا حقوق الإنسان عن قلقها بشأن القوانين الجنائية المتعلقة بقضايا التشهير. فعلي سبيل المثال، أقرت لجنة حقوق الإنسان للبلدان الأمريكية في أكتوبر 2000 الإعلان عن مبادئ حرية التعبير. وتنص الفقرة العاشرة من هذا الإعلان ضمن جملة أمور أخري علي ان "حماية سمعة الفرد ينبغي ضمانها بواسطة العقوبات المدنية، وذلك بالنسبة للقضايا التي يكون فيها الشخص الذي تعرض للإساءة مسئولا حكومياً، أو شخصية عامة، أو شخصا عاديا يشارك طواعية في الأمور المتعلقة بالمصالح العامة"