علي الرغم من أن معظم الأطراف ذات العلاقة بالملف النووي الإيراني كانت تدرك بصورة ما أن لدي طهران القدرة علي تخصيب اليورانيوم 235، بفعل وجود معلومات مؤكدة سابقة حول امتلاك إيران التكنولوجيات اللازمة والمعدات الكافية لإتمام عملية التخصيب، بدرجة منخفضة علي الأقل، كان إعلان كل من الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ورئيس هيئة الطاقة النووية غلام رضا أغازاده أن طهران قد قامت بذلك بالفعل، مفاجأة حقيقية، فإضافة إلي أحدا لايصدق في العادة إمكانية حدوث مثل تلك التطورات حتي تحدث بالفعل، كانت هناك دلالات هامة للخطوة الإيرانية من الناحية الفنية، أهمها: أولا، أنه اتضح أن حجم البرنامج الإيراني الخاص بتخصيب اليورانيوم أكبر مما كان متصورا، فما يتم الحديث عنه هو مكونات برنامج مكنت طهران من إنتاج كمية كبيرة نسبيا من غاز اليورانيوم (الناتجة عن تحويل حوالي 110 أطنان من اليورانيوم الطبيعي)، وإذا تم ربط ذلك بما ذكره الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني بشأن تشغيل وحدة تتكون من 164 جهاز طرد مركزي فقط، فإن ذلك يعني أن البرنامج يتمتع بحجم يتيح لإيران الحصول علي كميات تجارية تكفي لتشغيل مفاعليها: الكبير في بوشهر، وربما أيضا المفاعل الثاني الذي لم يكتمل بعد، إذا تم استخدام الوحدات الإضافية من أجهزة الطرد المركزي، والتي توجد تقديرات حول وجود أعداد هائلة منها لدي إيران. ثانيا، أن البرنامج النووي الإيراني أكثر تقدما مما كان متصورا أيضا، فمن المعروف أن عملية تخصيب اليورانيوم تتسم بالتعقيد الشديد، وتواجه مشكلات لا أول لها ولا آخر خلال عمليات التشغيل التجريبية، ويؤدي أدني خطأ فيها إلي عدم اكتمال العملية بالمستوي المطلوب في النقاء علي الأقل، وإذا كانت إيران قد تمكنت من الوصول إلي مستوي تخصيب يصل إلي 3.5 في المائة في الفترة القصيرة التي أعقبت قيامها باستئناف عملية تخصيب اليورانيوم لما أسمته أغراضاً بحثية، فإن ذلك يعني مستوي من التطور في التكنولوجيات التي تمتلكها، لكن من الجائز افتراض أنها قد حصلت علي تفاصيل تلك العملية عبر شبكة عبد القدير خان، أو أنها قامت بأعمال البحث في فترة سابقة قبل اكتشاف برنامجها الخاص باليورانيوم. وتشكك المصادر الأمريكية في أن تكون إيران قد قامت فعليا بما أعلنه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، وهي مسألة عادية قامت بها الولاياتالمتحدة من قبل في حالات سابقة، مثل حالة كوريا الشمالية، ربما لأنها ترغب في التقليل من أهمية الإعلان الإيراني، أو ربما ترغب في كشف إيران معلومات إضافية حول ماقامت به، خاصة وأن الإعلان الإيراني لم يرتبط بتقديم دلائل فنية حول عملية التخصيب، لكن مصادر الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاتستبعد تمكن إيران من القيام بذلك، خاصة وأنها تدرك بالفعل ما لدي إيران من معدات، وماحصلت علية من تكنولوجيات، كما أن من الصعب تصور أن يمارس الرئيس الإيراني مثل تلك اللعبة الخطرة مع الرأي العام الإيراني، أو مع بقية مؤسسات النظام في إيران، لمجرد كسب التأييد الشعبي، أو تخويف الآخرين. لكن دلالات الإعلان الإيراني تتجاوز الجوانب الفنية الخاصة بما أصبح مؤكدا من أن إيران أصبحت تمتلك برنامج قوي لتخصيب اليورانيوم 235، فما حدث يشير إلي أن إيران قد حققت ماكانت تهدف إليه منذ البداية وهو امتلاك القدرة علي تخصيب اليورانيوم علي أراضيها، واستكمال دورة الوقود النووي، ومن الصحيح أن هناك بعض المبالغات التي أحاطت بتقييم الرئيس أحمدي نجاد لتلك الخطوة، كالقول بأن إيران قد دخلت إلي النادي النووي، أو أنها أصبحت إحدي الدول القليلة المتقدمة في هذا المجال، فالنادي النووي بالمعني المعروف يرتبط بالدول التي تمتلك أسلحة نووية وليس مجرد تكنولوجيات نووية، وحتي ذلك النادي النووي "المدني" الخاص بالتكنولوجيات النووية أوسع بكثير مما يقول به الرئيس الإيراني، بل إن دولاً تمتلك أسلحة نووية _ وليس مجرد قدرات متطورة مثل باكستان وإسرائيل لم تعتبر نفسها قوي متقدمة أو كبري لمجرد تحولها إلي دول نووية. لكن في أجواء إيران تعتبر المسألة بالنسبة للشارع الإيراني إنجازا كبيرا، خاصة في ظل الطريقة التي أعلنت بها، وهي مسألة هامة تحليليا، فالإعلان الإيراني ليس موجها إلي الخارج فقط، وإنما إلي الداخل أيضا، حيث كانت هناك دائما قوي داخلية ذات نفوذ قوي تعترض نسبيا علي الطريقة التي يدير بها أحمدي نجاد الملف النووي، وتري أنه حقق في فترة قصيرة للغاية، ماعملت الولاياتالمتحدة لسنوات طويلة علي الوصول إليه، وهو إدخال إيران إلي قفص مجلس الأمن، ومصدر التخوف الداخلي الإيراني هو أنه إذا كانت إيران تستطيع إيذاء الآخرين في أكثر من موضع مؤلم، فإنها أيضا معرضة للإيذاء الشديد في مواضع شديدة الإيلام، أهمها الجانب الاقتصادي، الذي تتساوي تأثيرات المساس به مع تأثيرات أية ضربة عسكرية متصورة، فإيران مجتمع من التجار قبل أن تكون شيئا آخر، لذا فإن إعلان نجاد بتلك الصورة عن " الخطوة الإيرانية" يمس الساحة الداخلية. لكن يظل الفيصل هو ماسيحدث في الفترة القادمة، فما حدث هو أن الرئيس أحمدي نجاد قد تمكن بالفعل من إدارة الأزمة النووية بشكل معقول، لكنه قام الآن بإحدي أكثر تكتيكاته خطورة، وهو تكتيك "الهروب إلي الأمام"، حيث قام الرئيس الإيراني باستباق تاريخ 28 أبريل الذي كان من المفترض فيه وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي أن تقوم إيران بالإعلان عن وقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم، ليعلن أن المسألة قد انتهت، وأن إيران قد قامت بالفعل ببدء البرنامج وحققت نتائج أساسية بشأنه، وأنها بتلك الصورة قد امتلكت تلك التقنية وانتهي الأمر، ولم تعد المسألة ترتبط بالاعتراف لها بحق التخصيب أو غيره، فقد مارست ذلك الحق عمليا، وبالتالي فإنه يضع كل الأطراف الأخري أمام أمر واقع جديد، ويأمل في أن يكونوا عمليين مع طهران كما كانوا مع بيونج يانج، خاصة وأن إيران لم تحيط خطوتها بأية تهديدات حادة من النوع التقليدي، وإنما ذكرت أنها دولة متحضرة وملتزمة، وأن ماقامت به خطوة اقتصادية وليست عسكرية. إن الحل الذي تعرضه إيران علي الجميع في الوقت الحالي، هو أن يتم الاعتراف لها بما امتلكته بالفعل، لأنه لايوجد حل عملي آخر، وبالتالي فإنها يجب أن تحتفظ ببرنامجها، الذي قد ينطلق في اتجاه الإنتاج الصناعي واسع النطاق لوقود اليورانيوم في المستقبل، مع استعدادها للخضوع لكل ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك البروتوكول الإضافي، وربما صور أعقد من الرقابة اللصيقة. بل ربما تكون مستعدة لقبول فكرة أن يتم تشكيل "كونسيرتيوم" دولي يعمل في أراضيها في مجال تخصيب اليورانيوم بمشاركة العلماء والمؤسسات و" الشبان" الإيرانيين، المهم أن هدفها هو أن تظل العملية في أراضيها مع التعهد بكل الطرق بأنها لن تتجه نحو امتلاك الأسلحة النووية، التي أصبحت وفق ماقامت به قادرة علي الاقتراب منها. لكن لايزال الوقت مبكراً للحكم بما إذا كان ماقامت به إيران سوف يمكنها من الوصول إلي تلك الغاية أم لا، فمشكلة طهران الأزلية هي أن نقاط قوتها كانت دائما هي نفس نقاط ضعفها، وبالتالي فإنها إذا كانت قد وضعت الآخرين أما أمر واقع جديد، فإنها هي الأخري قد أصبحت معرضة بشدة، فقد أصبح لدي الولاياتالمتحدة خيار الدفع في اتجاه فرض العقوبات الدولية، ولن تقاوم روسيا التي بدا وكأنه قد تم التلاعب بها مثل هذا التوجه حتي النهاية، ويمكن للصين فقط شراء الوقت بافتراض أنها فوجئت هي الأخري بالخطوة الإيرانية، ولم تشر ردود الفعل الأولية إلي وجود حلفاء لإيران يدعمون ماقامت به، لافي المنطقة ولافي خارجها، وبالتالي فإن المسألة برمتها سوف تتجه في الفترة القادمة إلي مرحلة حاسمة، فإما واقعية شديدة أو عصبية شديدة، فالحل واضح والمواجهة ممكنة، لكن لأن الموقف شديد الحساسية، فإن كل طرف سوف يحاول إعادة ترتيب تفكيره، قبل أن يقرر مالذي سيفعله.