السبب الأول لازماتنا الطاحنة للأغلبية في مصر هو إهمال من يتصدي لمسئولية دور التخطيط في التنمية الشاملة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعيداً عن التصدي للمشكلات بحلول فردية تعبر في جوهرها عن الشطارة أو الفهلوة أو الإلهام، وهي شيم تكاد تكون ثابتة لكل من يتصدي للمسئولية من حكام مصر. وفي ذلك قال عمنا الكبير الدكتور جمال حمدان في مقدمة موسوعة "شخصية مصر": لا عجب بعد هذا ما نري وما نلمس من تخبط التخطيط، مثلا، وإحباطه وإجهاضة في عديد من المجالات وعلي معظم المستويات، إذ لا تخطيط البتة أيا كان نوعه بلا جغرافيا، ثم في ركاب التخطيط الفاشل هل من مفر أن يسير أو يستمر التخلف المادي والاقتصادي والحضاري العام؟ دع عنك بعد هذا تردي سياستنا الخارجية وتدهورها وانحرافها. إن ثقافتنا الوطنية - علينا من أسف أن نخلص - قاصرة محدودة، وحتي عند ذلك فنحن نأخذها بطريقة عاطفية فجة أكثر منها علمية ناضجة. ونحن - حرفيا - ندفع لذلك كله ثمنا باهظا في كل جوانب ونواحي حياتنا بلا استثناء." (شخصية مصر - المجلد الأول - الجزء الأول صفحة 19). واتساءل في الخمس والعشرين سنة الماضية كم تكلفت مشروعات التنمية في القاهرة الكبري؟ وكم تكلفت جميع مشروعات التنمية في جميع محافظات مصر الأخري؟. ما اذكره علي سبيل المثال لا الحصر أن مشروع الصرف الصحي للقاهرة فقط قد تكلف أكثر من ثمانين مليار جنيه!. وذلك غير الكباري والجسور والأنفاق والطرق والكهرباء والإسكان والمياه .. حتي أصبحت القاهرة تضم أكثر من ثمانين مدينة مزدحمة قذرة متجاورة ومتلاحمة .. لتحتل أول قائمة المدن المتروبوليس الأكثر تلوثاً في العالم!. لقد قامت النهضة المصرية الحديثة بناء علي الدراسات الإقليمية التفصيلية في مجلدات وصف مصر والتي سهر علي تنفيذها الفرنسيون المتمصرون الذين استعان بهم محمد علي . ومنذ أكثر من خمس وعشرين سنة لدي المجالس القومية المتخصصة دراسات تفصيلية عن كل نواحي التنمية الشاملة للحياة المصرية. لكنها مركونة علي الأرفف مع أساتذتها ذوي الوجوه الناعمة والنفوس الراضية والصوت الهادئ .. هم الذين تحسبهم أغنياء من التعفف .. وهم شيوخ لا يحترفون السياسة فلا يعرفهم الساسة. إن الجلوس في الصفوف الخلفية والأستماع إلي المناقشات في اجتماعات النخبة المختارة ليس بالأسلوب العلمي الصحيح لاتخاذ قرارت مصيرية تتعلق بمصالح البلاد والعباد. بل إن الأسلوب السليم هو استخدام نتائج الدراسات التفصيلية لتجميع المعلومات الدقيقة، ومن ثم تحديد نقاط القوة ومواطن الضعف. واقتراح بدائل الحلول وفرص الفشل والنجاح لكل منها. وبعدها يأتي الاختيار بالمفاضلة بين البدائل الموصلة للهدف المأمول .. وهو تحقيق الخير للأغلبية علي جميع مستويات ومناحي الحياة .. اليوم .. وغداً.