ماذا حدث لصحافة كانت في السابق محافظة وانحدرت بها الحال الآن لتتعامل من منطلق التحزب السياسي والاتجار بالحرب؟ أنا بالتحديد أتحدث هنا عن افتتاحيات صحيفتي "ناشيونال ريفيو" و"وول ستريت جورنال". عندما كنت أعمل مع "ناشيونال ريفيو"، كانت المجلة تُدرك أنه يجب حماية الدستور والحريات المدنية من قبضة الحكومة. لم يكن الأمر يعتبر مناقضا للوطنية أن يكون هناك تحيز للدستور والحريات المدنية ضد الحكومة الموجودة حتي إذا كانت تلك الحكومة جمهورية. تظل هناك أشياء أكثر أهمية من الولاء الحزبي. عندما كنت أعمل ضمن طاقم كُتاب الافتتاحيات في "وول ستريت جورنال" كانت الافتتاحيات تتسم بالطابع التحليلي والإصلاحي. في بعض الأحيان كنا أول من يفجر بعض القصص الإخبارية. والاهتمام الذي كانت توليه الصحيفة للاتحاد السوفييتي كان يعتمد علي الموقف العدواني للطبقة الحاكمة هناك وما كان يتم من كبت للحريات المدنية. أما اليوم فالصحيفة تعتمد علي بروباجاندا الحرب من وجهة نظر المحافظين الجدد. وتلاشت من الصحيفة كل المعلومات الاستخبارية. فلننظر إلي عدد "ريفيو أند أوتلوك" الصادر في الثالث من فبراير الماضي، والذي كُتب فيه أن إيران تمثل "تهديدا إرهابيا لا يمكن تحمله". هذا التهديد يأتي بسبب أن الرئيس الجديد لتلك الدولة استخدم عبارات تهديدية ضد إسرائيل. غير أنه معروف بالطبع أن بوش وإسرائيل يستخدمان بشكل متواصل عبارات تهديدية ضد إيران. وحتي يتجنب وصفه بأنه شخص غير فعال ليس له قيمة من قبل شعبه ومن قبل العالم الإسلامي، قام الرئيس الإيراني الجديد بالرد. غير أنه لاُ يذكر في تلك الافتتاحيات أن الإيرانيين قد ينظرون إلي الأسلحة النووية لإسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية باعتبارها هي الأخري تمثل تهديدا لا يمكن تحمله. بيد أن إسرائيل تملك أسلحة نووية، ما يجعلها مختلفة عن إيران في هذا الصدد. وفي ضوء تلك الحقيقة، التي تمثل في حد ذاتها قهرا كبيرا ، يصعب فهم السبب وراء أن كلاً من بوش وكتاب الافتتاحية في "وول ستريت" يرون أن هناك حاجة لأن تحمي الولاياتالمتحدة إسرائيل من إيران. لكن ماذا لو أن إيران نجحت في خداع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وطوَّرت بالفعل قنبلة نووية. أليس من الممكن لقادة إيران أن يضربوا إسرائيل بتلك القنبلة أو ينقلوها إلي إرهابي من تنظيم القاعدة الذي بدوره يمكن أن يستخدمها في تفجير واشنطن العاصمة ونيويورك؟ ماذا ستجني إيران من ذلك الفعل سوي تعرضها لتدمير فوري؟ إذا كان احتمال التدمير الفوري المؤكد قد نجح لمدة عقود في احتواء دولة شيوعية مسلحة بشكل قوي ومعادية ل "البورجوازية الرأسمالية" الأمريكية تماما كما أن إيران معادية ل "الشيطان الأكبر"، فلماذا لا تنجح الإستراتيجية ذاتها ضد دولة تعد ضعيفة وسقيمة بالمعايير السوفييتية؟ إن إيران لا تحتاج إلي أسلحة نووية حتي تفعل كل الأشياء التي يعرضها كُتّاب الافتتاحيات في كتاباتهم ضد طهران. فأي هجوم إسرائيلي أو أمريكي علي إيران من المحتمل أن يسرّع من العواقب الوخيمة التي يخشاها هؤلاء الكُتاب، وهي كالتالي: انتفاضة شيعية في العراق، قطع للإمدادات النفطية، إغلاق مضيق هرمز شن هجمات إرهابية علي امتداد الشرق الأوسط. من الصعب فهم منطق خوض مخاطر كتلك فقط لمجرد وجود افتراضية تفيد أن إيران تعتزم تصنيع أسلحة نووية. وقبل الهجوم علي دولة مسلمة أخري بناء علي مجرد افتراض وقبل إثارة حالة أخري من الغضب وعدم الاستقرار يمكن بدورها أن تؤدي إلي زوال العناصر الحاكمة في الشرق الأوسط، بما فيها القيادة الحاكمة في باكستان النووية، فإنه من الأفضل أن تتخلي أمريكا عن إطلاق العبارات التهديدية وتُعيد استئناف التعاون مع إيران وتواصل الأعمال التفتيشية التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتنتظر حتي يكون هناك دليل حقيقي علي وجود برنامج لإنتاج الأسلحة النووية. لقد هرعت أمريكا إلي شن حرب علي العراق علي أساس مجموعة من الأكاذيب. و عندما يصف كتاب الافتتاحية في "وول ستريت" القادة الحاليين لإيران بأنهم يعانون "هوس الغموض علي نمط سفر الرؤيا"، فإنه يجدر بهم أن يصفوا مناصري بوش الإنجيليين واليعقوبيين من المحافظين الجدد بأنهم يدفعون أمريكا إلي فرض إرادة المحافظين الجدد علي الشرق الأوسط. هذا هو برنامج للمختلين ذهنيا. وأحدٌ من المحافظين لا يمكنه تأييده.