لم يفهم كثيرون لماذا اتخذ الشيخ خالد الجندي هذا الموقف من "مؤتمر الدانمارك" الذي حاول من خلاله عمرو خالد أن يطور الأسلوب المتبع في التعامل مع مشكلة الرسوم المسيئة للرسول صلي الله عليه وسلم في اتجاه "التفاعل" مع الدانماركيين، بدلا من خوض صدام معهم ومقاطعتهم علي نحو ماتفعل تيارات أخري. ولايرتبط مصدر عدم الفهم هنا بعدم وجود أسباب معلنة لموقف الشيخ خالد، لكن لأن جوهر ماساقه في هذا الاتجاه كان يمثل انقلابا حادا علي نفسه كما فهمناها لفترة طويلة، قبل أن يمثل تراجعا محبطا عن توجه شديد الأهمية في تجديد الخطاب الديني، لدرجة تطرح سؤالا عن المسافات الحقيقية الموجودة بين الحرس القديم والدعاة الجدد في عالم شيوخ الإسلام . ولاأعرف بالضبط ماإذا كان الشيخ خالد الجندي يحب تعبير "الدعاة الجدد" أم لا، لكن هذا المفهوم يعبر عن تطور جديد يكتسب كل ملامح الظاهرة التي لفتت الانتباه بشدة واتسع نطاقها وتعمق تأثيرها، وأثارت اشتباكات لانهاية لها، لكنها كانت شديدة الأهمية في دفع الخطاب الديني والتفسيرات الدينية إلي مساحة جديدة من البشر لم يكن من يتحدثون عن "خولة بنت ثعلبة" في عصر "أسامة بن لادن" يمكنهم أن يصلوا إليها. وقد احتل الشيخ الجندي موقعا متميزا علي خريطة ذلك التيار، الذي يضم أسماء كبيرة كعمرو خالد والحبيب الجفري، لسبب بسيط إضافة إلي سماته الشخصية وتفكيره العقلاني هو أنه أحد خريجي الأزهر الشريف، لدرجة أوجدت تصورا في بعض الأحيان أن من الممكن أن يظهر إصلاحيون من الأزهريين. عندما كنت أتولي رئاسة تحرير ملف الأهرام الاستراتيجي، وهو دورية شهرية تصدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، كلفنا الزميل وائل لطفي، الذي يولي اهتماما خاصا بمسألة الدعاة الجدد، بإعداد موضوع عن الشيخ خالد الجندي الذي نشرنا صورته علي غلاف العدد، ويحمل ماكتب في الموضوع الكثير مما يمكن أن يفسر الموقف الأخير لشيخنا، لكن الجانب الجاد في القضية هي أن رموز هذا التيار كانوا دائما مايختلفون عن الشيوخ المرتبطين بالمؤسسة الدينية التقليدية أو "حركات الإسلام السياسي" أو جماعات التطرف الديني، وبالطبع عن خطباء المساجد في ثلاثة أمور أساسية، هي: الأول: أنهم يهتمون بالحياة أكثر مما يهتمون بالموت، فهم يقدرون الحياة ويتحدثون عنها باعتبارها مسألة هامة تستحق أن تعاش وأن يتم الإنجاز خلالها بل والاستمتاع بها، فلايجب الإعراض عنها، وهي ليست رجسا من عمل الشيطان، بعيدا عمن يرون أن الآخرة هي الحقيقة الوحيدة. الثاني: أنهم يركزون علي الجوانب "المبشرة" بأكثر مما يتحدثون عن تلك الجوانب "المنذرة" المخيفة التي يتم من خلالها بث الرعب في قلوب الناس من الأهوال التي تنتظرهم، أو يتم تصويرهم وكأنهم مذنبين خاطئين لن يروا الجنة أبدا، وذلك بصوت عال وأساليب تهديدية، ف "الجدد" يتحدثون بأسلوب سهل ويبتسمون مثل البشر. الثالث: أن لهم رؤية مختلفة بشأن الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا أو عرقيا، فهم يقينا لايخرجون الناس من الدين، ولايستهدفون خلق الله، ولايعتبرونهم من دار أخري، ولايشنون حروبا ضدهم، وليس لديهم عصاب هدايتهم باعتبارهم مخطئين، أو تلك الرؤيا الخاصة بالصراع الأبدي في العالم. إن النقطة الثالثة هنا هي محل الاهتمام، فإذا كان الافتراض السائد هو أن الآخر مثلنا بشر، وأننا لسنا في حالة صراع معه، وأن المسألة لاتسير في اتجاه أنه يجب أن يهتدي للحق أو يقدم الجزية، وأن الحوار بالتي هي أحسن، وليس بخطف الطائرات وضربها بالمباني العالية هو السبيل، فإن المفترض في النهاية هو أن أي مقترح أو توجه للتعامل مع أزمة الرسوم المسيئة بأساليب عقلانية هادئة تحفظ الحق وترسي مبادئ وتتفاعل مع البشر من خلال الاتصال والحوار كان يجب أن يتم الدفع في اتجاهه ودعمه بكل الطرق، بعيدا عن أسلوب "رفع الذيول" وحرق الأعلام وحرب الشوارع، التي قد تفيد البعض، لكنها لن تخدم الإسلام. لكن ماحدث كان مثيرا، فقد تحولت مجموعة من كبار الشيوخ إلي جنرالات وجدوا فرصة حقيقية لإدارة ذلك الصراع الأبدي، حسب تصوراتهم، مع الغرب الذي أخطأ خطأ فادحا، وتحرك الشارع الإسلامي ضده بشكل غير مسبوق، وقامت الحكومات بركوب الموجة حتي لاتتخلف عن الركب أو يتجه الحنق إليها، فهي أيضا "ذكية" وتفهم جيدا أن هدف التيارات المتشددة هو عواصم المنطقة وليس عواصم أوروبا، وعلي ذلك سادت لدي البعض فكرة "تركيع الغرب" هذه المرة، وربما حصار فيينا مرة أخري. وكان كل ذلك مفهوما من هؤلاء، لكن مالم يكن مفهوما هو أن يتبني دعاة مثل خالد الجندي مثل تلك التوجهات، علي الرغم من أن داعية آخر مثل عمرو خالد، من نفس المعسكر، قد قرر أن يفعل العكس، ولم يكن وحده، فقد استشار كثيرون قبل أن يفعلها، وبالتالي فإنه لم يكن خارج السرب. لقد طرح الشيخ خالد بهذا الشأن مقولات مختلفة كثيرا منها ليست أكثر من تعبيرات تليفزيونية لامعني لها، وأحيانا لاتليق، مثل الحديث عن "حوار لايت" أو "حوار دايت" علي نحو يذكر بالتعبيرات اللطيفة التي كان طلاب الأزهر "زمان" يطلقونها، لكنه مع ذلك تحدث عن أمور مثل "شروط الحوار"، وهو مايدخل بالمسألة إلي مجال بعيد تماما عن نطاق حركة وتفكير الشيوخ، ويمكن هنا طرح 10 أفكار محددة تشير إلي أن فكرة الشروط المسبقة لاتنطبق علي حالة أزمة الدانمارك، التي هي مشكلة ثقافية دينية وليست مفاوضات حول أرض أو موارد، فالفكرة هنا هي أنه لاتوجد شروط مسبقة تتعلق بالحوار، إذا كانت هناك قناعة حقيقية بفكرة الحوار مع الآخرين. إن المشكلة هنا بصراحة هي تلك المعضلة، فإذا كان الدعاة الجدد قد تمكنوا بكفاءة نادرة من الإفلات من فكرة الموت وركزوا علي الحياة، وإذا كانو أيضا قد تمكنوا من التركيز علي خطاب التبشير وليس التخويف، فإنهم لم يتمكنوا من الابتعاد كثيرا عن الأفكار السائدة بشأن الآخر، وهي أفكار شديدة التسلط والعنفوان، وترتبط بفتاوي وتفسيرات قديمة، لدرجة أن معظم هؤلاء الدعاة كانوا يحاولون دائما تجنب التطرق لها، وحتي عمرو خالد نفسه، إثر عودته من الدانمارك، كان يفضل استخدام تعبير "الهداية" لوصف ماقام به، قبل أن يلفت أحد المشاهدين انتباهه عبر اتصال تليفوني، إلي أنه ربما يقصد "التعريف" وليس الهداية، لكنه علي الأقل تمكن من التغلب علي الانتقادات الحادة والضغوط الرهيبة من شيوخ جبابرة، وكان أمينا مع نفسه، ولم ينقلب عليها.