يقترب العراق حثيثا نحو الحرب الأهلية والانقسام العرقي كنتيجة مأساوية للغزو والاحتلال الأمريكي للعراق. الأحداث هذه المرة بلغت درجة من الخطورة لم تبلغها من قبل بتفجير القبة الذهبية لمرقد الإمامين العاشر والحادي عشر في التاريخ الشيعي الأمر الذي وجه ضربة نفسية هائلة للشيعة في العراق ودفع جموعهم إلي الانتقام من مساجد السنة ومقابر رموزهم الدينية. المحزن أن القبة الذهبية لمرقد الإمام علي الهادي والتي قام المخربون بتدميرها تقع في مدينة سامراء ذات الأغلبية السنية منذ مئات السنين ولم يمسها أحد، وهناك الكثير مثلها من مقابر ورموز السنة تقع وسط مناطق شيعية ولم يحدث من قبل أن اشتعلت مثل هذه الرغبة الوحشية في الانتقام والخلاص من الآخر. أصابع الاتهام تتجه من البداية إلي دور الغزو الأمريكي في دفع العراق إلي تلك النتيجة المأساوية. كان حكم صدام برغم استبداده وقسوته كفيلا باحتواء هذا "الموزيك" العراقي من الأعراق والأديان، وفرض النظام علي الجميع، لكن حماقات الرجل الخارجية أعطت الفرصة للتدخل العسكري في العراق. وبالتدريج، وخطوة خطوة، انتهي التدخل إلي غزوه واحتلال كامل أراضيه. لقد بدأ اللعب الأمريكي علي الاختلاف الطائفي من ساعة أن مد حمايته الجوية علي مناطق الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب، وتُركت مناطق السنة تحت حماية صدام حتي تم الغزو في مارس 2003 وأصبح العراق كله تحت الاحتلال. الموضوع له جوانب كثيرة بعضها داخلي عراقي بحت، وبعضها تاريخي، وبعضها إقليمي، وبعضها الآخر أمريكي بحكم احتلال أمريكا للعراق ووجودها العسكري علي أرضه. منذ بداية الغزو شكًل البعد الطائفي والديني في العراق معضلة صعبة للاحتلال الأمريكي وصلت إلي حد الأزمة، ومع مزيد من التصعيد يمكن أن تخرج الأزمة عن حدود السيطرة عليها. بدأ الخطأ من الأيام الأولي للغزو عندما قرر الأمريكيون حل الجيش العراقي وأجهزة البوليس وإدارات الأمن، فتفككت الدولة العراقية وتلاشت تقريبا وصارت المرجعية للطائفة والقبيلة ورجال الدين. في أزمة تدمير القبة الذهبية لمرقد الإمام علي الهادي كانت الدولة العراقية غائبة تماما وصوتها كان الأضعف، أما الصوت الأعلي فجاء من المرجعيات الدينية الشيعية والسنية داخل العراق، بل خرجت دعوات استنكار وشجب من مرجعيات دينية للشيعة والسنة خارج العراق. ولا شك أن المدخل الأمريكي غير المتدرج لإعادة بناء النظام السياسي باستخدام معادلات ديموقراطية معقدة قد ذات الطين بلَه، وأشعل التنافس بين الطوائف، وسط مناخ مشتعل أصلا ومعبأ بسبب وجود الاحتلال. لم يكن ممكنا بعد الغزو وتفكك الدولة تجنب التناحر السياسي بين الطوائف العرقية والدينية العراقية، فالأمر متصل بسلطة الأغلبية وتوزيع الثروة والرغبة في البقاء، وهذه النتيجة أوقعت الجانب الأمريكي في أزمة حقيقية. من ناحية كان هناك اعتقاد بأن وجود قدر من الخلاف بين الطوائف العراقية يمنح الأمريكيين مساحة أوسع للمناورة، ويعطيهم القدرة علي امتلاك السيطرة علي تطور الأحداث، ويضمن ألا توجه كل الرماح العراقية إليهم بل ربما يضطر كل طرف إلي طلب الدعم الأمريكي للتغلب علي الأطراف الأخري. ومن جانب آخر يمكن أن يؤدي اشتعال العنف وخروجه تماما عن حد السيطرة إلي فشل المشروع الأمريكي وسقوطه، ودفعه إلي الهرب من الساحة كما حدث من قبل في الصومال. المشهد الحالي ينذر بمستقبل محفوف بالخطر: أعداد الجثث الكبيرة من الشيعة والسنة التي يتم العثور عليها كل يوم، والعمليات التدميرية الموجهة إلي الجوامع والمزارات الدينية للطرفين، واغتال الشخصيات والزعامات البارزة في وضح النهار، كل ذلك ينذر بأننا علي أبواب مرحلة جديدة من الحرب الأهلية في العراق وسط أجواء الفشل الحالي في تشكيل حكومة عراقية قوية، وتدخل السفير الأمريكي بوضع شروط معينة علي اختيار الوزراء. يري الأمريكيون أن وجود قليل من الخلاف بين الطوائف العراقية ربما يكون مفيدا بالنسبة لهم، لكن الانفلات الكامل كما يحدث الآن سوف يدفعهم إلي التدخل في تشكيل الحكومة لضمان السيطرة علي الوزارات الأمنية الأمر الذي يزيد من ضعف الحكومة الحالي ويقوي من عزيمة القوي المنخرطة في الصراع الداخلي. من المتوقع بطبيعة الحال ألا يستمر الموقف المحايد لأجهزة الأمن لفترة طويلة وخاصة أنها مخترقة من جهات كثيرة، بل من المتوقع إذا استمر الصراع الداخلي بهذه الدرجة أن تنقسم أجهزة الأمن إن آجلا أو عاجلا وتنضم إلي الاقتتال الطائفي، وسيكون أول ضحاياها الحلم الديموقراطي الذي روجت له الولاياتالمتحدة والذي لم ينجح في جلب السلام الأهلي للبلاد كما كان متوقعا. البعد الثاني للأزمة بالنسبة للجانب الأمريكي هو أن اشتعال الحرب الأهلية في العراق سوف يستدعي بالضرورة تدخلات خارجية من امتدادات عرقية ودينية خارج البلاد. فإذا فشلت نداءات الحكمة وضبط النفس لن يكون أمام الخارج إلا التدخل بصورة ما لنصرة القوي المحسوبة عليه في الداخل. وبرغم أن هذا التدخل الخارجي كان موجودا باستمرار وبدرجة معينة، إلا أنه سوف يزيد مع تصاعد الصراع الداخلي الأمر الذي سوف يضع الاحتلال الأمريكي بين فكي الداخل والخارج، ومتهما من الاثنين بأنه السبب الأول في الكارثة. ومن زاوية أخري فإن اشتعال الحرب الأهلية أو حتي تصاعد الاستقطاب الداخلي بدرجة عالية كما هو عليه الآن سوف يجعل من فكرة الاستعانة بقوات عربية لحفظ الأمن في العراق عملية مستحيلة، والسبب أن بعض هذه القوات قد تحسب في ميزان طائفة، وتوضع من خلال الصراع الدائر تحت اختبار دائم وربما تتحول مع الوقت إلي طرف في الصراع مع استمرار ضعف الحكومة العراقية. البعد الثالث للأزمة الأمريكية وهو الأخطر أن تفجر الحرب الأهلية في العراق سوف يعطي خصوم الولاياتالمتحدة في المنطقة وخارجها فرصة لا تعوض في الإجهاز عليها ودفعها إلي انسحاب مماثل لما حدث لها في فييتنام. إيران وسوريا والقوي الإسلامية الصاعدة في فلسطين والأخري الموجودة في لبنان والتي تواجه في الحقيقة "معركة وجود" بسبب السياسات الأمريكية الأمريكية المعلنة والرامية إلي تغيير النظام في سوريا وطهران، وإسقاط حماس، ونزع سلاح حزب الله. ويضاف إلي هؤلاء وبحكم المصلحة المشتركة قوي الإسلام المتطرف ممثلا في منظمة القاعدة وغيرها من المنظمات والحركات الإسلامية العاملة في الظلام والتي تشن الولاياتالمتحدة ضدها ما تطلق عليه "الحرب ضد الإرهاب". إن هذا البعد الممتد خارج العراق سوف يدفع بالضرورة قوي أخري غربية إلي مراقبة تحولات العراق إلي دولة مفككة فاشلة وتداعيات ذلك علي المصالح الغربية في المنطقة. إن أزمة الرسوم الدينماركية كانت كاشفة عن حالة تعبئة هائلة في المنطقة ضد الغرب بشكل عام وسيكون السقوط الأمريكي في العراق وخروجه منه تحت وطأة الاقتتال الداخلي الخارج عن السيطرة مؤشرا لعواقب وخيمة ضد المصالح الغربية وليس الأمريكية فقط. أيضا كان غزو العراق مصلحة كبري لإسرائيل، لكن انهياره الكامل ووقوعه في أيد قوي إسلامية تعمل من أجل محو إسرائيل من الخريطة سوف يمثل عليها عبئا خطيرا خاصة إذا تعرض الأردن لنفس المصير نتيجة تفكك العراق. تحاول الولاياتالمتحدة التغلب علي المشهد الحالي بإجراءات بوليسية من خلال فرض حظر للتجول والاسراع في تدريب مزيد من القوات العراقية، لكن ذلك لن يفيد بدون وجود مصالحة داخلية قائمة علي أسس عادلة. قد تلجأ الولاياتالمتحدة في النهاية إلي إقرار انقسام العراق إلي ثلاث دويلات صغيرة تجمعهم حكومة فيدرالية ضعيفة مثلهم الأمر الذي قد يجلب قدرا من الأمن وهذا ما يطالب به شيعة جنوب العراق متشبهين بما حققه الأكراد من استقلال ذاتي. لكن بدون وجود حكومة مركزية قوية سوف تتعرض الأقليات في كل دولة من الدول الثلاث إلي الاضطهاد والطرد وربما المذابح الجماعية. المؤكد أن الولاياتالمتحدة تواجه ظروفا صعبة في العراق، فلا هي يمكنها تركه لمصيره، كما أنها قد لا تقدر علي الاستمرار أبعد من ذلك. لقد حلمت أمريكا بعراق علي النمط الغربي الحديث كما فعلت مع اليابان وكوريا الجنوبية فخرجت لها أشباح الماضي من وراء كل جدار.