اهتزت مصر للكشف عن أنفلونزا الطيور، فقامت الحكومة بإصدار بيان رسمي بعد الكشف عن الحالات السبع الأولي، وشرعت في إغلاق محال بيع الدواجن الحية، ومطاردة بائعيها، ومنع نقلها بين المحافظات، وتحطيم الحظائر المنزلية. أما المواطنون فقد امتنعوا عن شراء الدواجن ، فانهارت أسعارها، وعاد ذلك بخسائر كبيرة علي تجارها ومنتجيها الذين تظاهروا محتجين علي بعض هذه الإجراءات ومطالبين بالتعويض عن خسائرهم. لهذا الحدث الكبير والمظاهر التي أخذها معزي مهم يتعلق بنوع المجتمع الذي أصبحنا نعيش فيه. وربما كانت أولي الدلالات التي بينها هذا الحدث هي أن المعرفة تحدث فرقا، فكما بين عدد من المختصين فإن هذه ليست هي المرة الأولي التي تتعرض فيها الدواجن المصرية لوباء من هذا النوع، وكان آخر هذه المرات قبل ثلاثين عاما. غير أن الناس في الماضي لم يكونوا يعرفون أن الأعراض التي يرونها علي الدجاج ليست سوي وباء قد يكون قاتلا للبشر، وذلك لأن وسائل الاتصال والإعلام لم تكن علي الدرجة الراهنة من التطور، فلم يعرف الناس أن ما حل بالدجاج إنما هو مرض قاتل، وأن البلاد المتقدمة ومنظمة الصحة العالمية طورت أساليب للتعامل معه، وأن هذه الأساليب تصل إلي حد إعدام الملايين من الدواجن، فكان المصريون في الماضي عندما يصيب الدجاج المرض يتحدثون عن الفرة أو الشوطة التي أصابت الفراخ، ويسارعون بذبح الدجاج المصاب قبل أن ينفق، فالمهم أن يكون الدجاج مذبوحا وليس ميتا حتي يظل أكله محللا ومباحا. أما الآن وقد عرفوا فإن الناس يتصرفون بشكل مختلف رأيناه في الامتناع عن شراء الدجاج وتناوله، حتي لو كان مذبوحا بطريقة شرعية تجعل أكله حلالا. المعرفة تحدث فرقا، هذه هي الخلاصة. ومن المهم ملاحظة أن هذه المعرفة لم تنتج عن الذهاب للمدارس، وإن كان الأثر العام للتعليم يظل موجودا، ولكنها المعرفة الناتجة عن ظهور وسائط تكنولوجية جديدة للاتصال والإعلام وتبادل المعلومات. فالمواطنون لم يكونوا ليظهروا كل هذا الاهتمام والحرص لولا ما يصل إليهم من معلومات عن طريق وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت وما يتبادلونه عبر الأحاديث التليفونية والرسائل النصية القصيرة. والحكومة لم تكن لتتصرف بالطريقة التي تصرفت بها لولا الأضواء التي باتت مسلطة عليها من وسائل الإعلام، ولولا الضغوط التي تتعرض لها من رأي عام بات مهتما ومدركا. إنه عالم تحكمه وتشكله التكنولوجيا حتي في بلد نام مثل مصر، وهو عالم جديد بحق. لقد أصبحت هذه الأجهزة الألكترونية الصغيرة الموجودة في بيوتنا ومكاتبنا وجيوبنا، من تليفزيونات وأجهزة كمبيوتر وتليفونات محمولة وغيرها المصدر الأساسي لتشكيل طريقة إدراكنا للعالم المحيط بنا، ولصياغة ردود فعلنا تجاهه، الأمر الذي له أن يغير أنماط فكرية وسلوكية استقرت لقرون طويلة. فطبقا لما بات شائعا من المعارف والنصائح، فإن الخطر الأكبر الناجم عن هذا المرض هو في انتقاله من الطيور المصابة إلي الإنسان، وهو ما قد يحدث بسبب المخالطة، الأمر الذي يجعل حظائر الطيور الموجودة في المنازل تمثل المصدر الأهم للخطر بسبب ما يرتبط بها من مخالطة مستمرة بين الطيور وأهل البيت، خاصة من الصغار، وخاصة أن القسم الأكبر من الطيور المصابة، والذي بلغ حسب التقارير الرسمية ما نسبته 90% من الطيور المصابة، قد أتي من حظائر غير مرخصة. لهذا وجدنا الحكومة ترسل موظفيها وقوات الأمن لتحطيم حظائر الطيور الموجودة فوق الأسطح وفي البلكونات وفي البيوت الريفية، وهكذا بات بقاء الحظائر غير المرخصة مهددا، وباتت السلوكيات الاجتماعية وأساليب العيش وكسب الرزق المرتبطة بها مرشحة للاختفاء. لفترة طويلة كانت "عشة الفراخ" و"غية الحمام" من مظاهر المجتمع التقليدي التي صمدت في وجه موجات الحداثة التي هبت علي مجتمعنا. فظهور المدن المكتظة التي تستوعب قسماً كبيراً من السكان هو من الظواهر المرتبطة بالحداثة والمجتمع الحديث، ولهذا فإن الإدارة الجيدة للحياة في المدن هي أحد أهم مظاهر ومقاييس المدي الذي ذهب إليه المجتمع علي طريق الحداثة. ففي البلاد التي دخلت إلي الحداثة بحق، ولدواعي الحفاظ علي الصحة والسلامة العامة التي تتعرض لمخاطر كبيرة بسبب تكدس الملايين من البشر في مدن ذات مساحات صغيرة مهما كبرت، تم سن قوانين صارمة للحفاظ علي سلامة البشر وممتلكاتهم، بدءا من القواعد المنظمة للبناء وقواعد الفصل والتمييز بين المناطق السكنية والمناطق التجارية والصناعية، مرورا بالقيود المفروضة علي سرعة السيارات، وانتهاء بالقوانين المنظمة للسلوك الشخصي للمواطنين، مثل حظر البصق أو قضاء الحاجة في الشارع. ومن ضمن القواعد التي تم الأخذ بها لتنظيم الحياة في المجتمعات الحديثة فرض القيود علي اقتناء الحيوانات والطيور في المنازل، لما يمكن أن يتسبب عنها من تعريض صحة الملايين من الناس للخطر. ومع أنه يوجد تشريع مصري يمنع تربية الطيور والحيوانات الداجنة في المنازل، إلا أنه من نوع القوانين المنسية التي اعتبرها جانب كبير منا نوعاً من التقليد الأعمي للغرب، أو أداة تستخدمها الحكومة حينما تحب "للتنكيد علي المواطنين"، أو سبوبة ومصدراً لرزق غير شرعي للقائمين علي تفسير القانون. بل إن كثيرين منا اعتادوا التأسي علي الزمن الذي كان فيه المصريون ينتجون غذاءهم في بيوتهم، فيما يمكن اعتباره حنينا لعالم تقليدي أوشك علي أن يولي، وتمردا ساذجا ضد حداثة لا مفر من قبولها. فبمناسبة أنفلونزا الطيور باتت "عشة الفراخ" و"غية الحمام" التي كانت لقرون طويلة رمزا للثقافة والأصالة المصرية مصدرا للخطر ورمزا له، وبتنا مع هذا التحول مجبورين علي التخلي عن كثير من الأشياء التي أحببناها لقرون، مثل تربية الحمام التي كانت هواية وطنية مميزة للمصريين، وعشش الفراخ فوق الأسطح التي طالما كانت ملتقي المحبين الصغار بعيدا عن أعين الكبار والعوازل. ما يسري اليوم علي "عشة الفراخ" و"غية الحمام" يسري علي كثير من مظاهر اعتدناها في حياتنا، ولن يمر وقت طويل حتي نجد أنفسنا نشارك في حملات مطاردة الكلاب والقطط الضالة المميزة لمدننا وقرانا، كما سنجد أنفسنا نبحث عن طريقة أكثر ملاءمة لذبح الأضحيات والتخلص من بقاياها، الأمر الذي ستتغير معه كثير من ملامح المجتمع الراهن، ليصبح مجتمعا أكثر حداثة، علي الأقل في مظاهره الخارجية.