لم تكن الفتنة قادمة هذه المرة من الدنمارك، ولا يبدو أنها سوف تكون من النوعية التي تثير المظاهرات في العالم الإسلامي كله من سواحل المحيط الهادي وحتي شطآن المحيط الأطلنطي، ولا حتي وقت كتابة هذه السطور قبل أيام تحركت العواصم العربية لمنع الكارثة العظمي القادمة من العراق. وكان اليوم قبل أسبوع واحد من الأيام الغبراء التي تشتد فيها حملات القتل بين أطراف كثيرة متصارعة في بلاد ما بين النهرين، ولكن المشهد كان جديدا عندما لم يكتف بقتل البشر بل أنه امتد حتي أعز وأغلي مقدساتهم عندما دخل عشرة من المسلحين إلي مسجد الإمام علي الهادي وولده الإمام حسن العسكري في سامراء، وبعد قيامهم بتحزيم المبني بالمتفجرات أطلقوها لكي تنسف المسجد والمقام والقبة الذهبية، وبينما يبتعدون كانوا يرددون مع رفاق لهم صيحات الله أكبر. ولم ينتصف النهار حتي كانت هناك صيحات أخري مماثلة بنفس كلمات الله أكبر بعد أن تم تدمير قرابة ثلاثين من مساجد السنة بطول العراق وعرضها، وخرج واحد من التابعين لجماعة مقتدي الصدر قائلا إنه سوف يقوم بحرق مسجد الإمام أبي حنيفة صاحب المذهب الحنفي، وواحد من أربعة مبدعين عظام في الفقه السني. وحتي وقت كتابة هذه السطور كان مسجد الفقيه أبي حنيفة لا يزال علي حاله سليما، ولكن أوضاع الحريق في العراق آخذة في الانتشار والاتساع بأكثر من قدرة العقلاء وأصحاب الرؤوس الباردة علي حصارها وإطفائها. والحقيقة أنه لم يكن هناك قلة من هؤلاء، بل كان هناك عدد غير قليل شمل الإمام السيستاني والرئيس جلال الطالباني، وعشرات بل ومئات غيرهم، وكل هؤلاء حذروا من الفتنة، ولعنوا من أيقظها، وطالبوا الجميع بوقف التوجه نحو الانتقام والثأر. وبالتأكيد أنه كان هناك عدد لا يقل عن هؤلاء في العالم العربي والإسلامي يطالب كل الأطراف بالحكمة، ورفض العنف، والتمسك بالوحدة الوطنية، والاعتقاد في الدين الحق الذي يحرم قتل النفس، والاعتداء علي بيوت الله. وبين هؤلاء وهؤلاء من الداعين لمنع الفتنة من الحدوث كان هؤلاء من بدأوا في توزيع الاتهامات علي قوي الاحتلال والصهيونية التي اعتمدت سياسة الفرقة والتفريق بين الإخوة، وهي طريقة دائما مضمونة لاستبعاد تحميل المسئولية لمن قام بالتفجير والقتل وسط صيحات التكبير العالية. ولكن الدعاء لله من اجل تجنب الفتنة، والدعوة لجميع الأطراف بالتماسك والوحدة، وتحميل أطراف مختلفة مسئولية الجريمة، لن يحل حقيقة أن معطيات الفتنة قد اكتملت ولم يبق سوي فتيل التفجير. ومن الجائز تماما أن ينجح جمع العقلاء والحكماء وأصحاب المصالح الوطنية في منع امتداد تفجير ونسف مسجد الإمام علي المهدي من الامتداد لتفجير مسجد الإمام أبي حنيفة، ولكن المعضلة هي أن كل هذه الجهود قد تؤجل الانفجار الأعظم ولكنها وحدها لن تمنعه. ففي مثل هذه الحالة التي تهتف فيها كافة الأطراف بأن الله أكبر وهي تنسف وتفجر وتقتل فإننا نصبح أمام حالة كلاسيكية من الفتن التاريخية التي يصبح فيها الدين أبرز وسائل الحشد والتعبئة واستنهاض جميع مشاعر التحفز من أجل إلحاق الأذي بالآخرين في مشاعرهم وأبدانهم باعتباره أولي درجات الاستشهاد. الفتنة هنا في العراق، وبالشكل التي سارت به منذ تفجير مسجد الإمام علي المهدي، تمثل إدانة قطعية لحشر الدين في السياسة وإعطائه شهادة الخلاص داخل مصالح دنيوية متصارعة من خلال تقسيمات السنة والشيعة وغيرهما والتي تنتهي الحادثة فيها بصيحات الله أكبر. وبعد أن يحل الدين والعصبية مكان السياسة فإن استخدام العنف البدني والمعنوي يصبح مباحا إلي حدود لا يستطيع أحد تخيلها؛ فالإرهابيون كانوا يعرفون تماما القيمة الخاصة بالمسجد الشيعي المقدس، ويعرفون أن وجود هذا المسجد في مدينة سنية هو شهادة علي وحدة العابدين للواحد الوهاب. ولكن القضية هي أن هؤلاء "التكفيريين" كما يقال عنهم في العراق تم اعتمادهم باعتبارهم من جماعات المقاومة المشروعة، وعندما قاموا بمثل هذه الجرائم من قبل في أفغانستان والعراق فإن أكتافا كثيرة اهتزت قليلا، وبعدها جري تحميل المسئولية للاحتلال الأمريكي، وإن لم يكن ذلك كافيا جري إضافة المؤامرة الصهيونية. فالأمر في العراق ليس جديدا بالمرة، فقد جري الذبح لآلاف من الشيعة في مدينة جلال أباد الأفغانية من قبل، وتمت استباحة مقدسات وحسينيات شيعية عراقية باعتبارها ارتدادا عن الإسلام، وفي الحقيقة بقيت الجماعة السنية ساكتة سواء كان الأمر في العراق أو خارجه. ولم يكن ما تم إنكاره علي الشيعة العراقيين حقيقة إسلامهم فقط بل ومعها عروبتهم؛ فعندما كان يجري حساب "الهوية العراقية" العربية، كان العرب السنة هم المقصودين أما من بقي من عرب فهم ينتمون إلي هويات وولاءات أخري. ما يجري في العراق لم يجر فيها وحدها بل سار سيره في دول عربية وإسلامية أخري، فقد اختلط الدين والسياسة في كل البلدان العربية والإسلامية تقريبا إلا من نجا وعمل صالحا بمعرفة أن الناس أعلم بشئون دنياهم، وأن الدين لله والوطن للجميع. وإذا كنا نري اليوم الفتنة تطل برأسها علي بغداد وسامراء والبصرة، فإن الفتنة لم تبدأ ولن تنتهي فيها!. لعن الله الفتنة ولعن من أيقظها!.