للتغييرات الأخيرة في قيادة الحزب الوطني دلالة لاحظها كل من تابعوا هذه القضية وكتبوا عنها، فمواقع الحرس القديم في مواقع الحزب القيادية تتجه نحو مزيد من التقلص، بينما تحل قيادات شابة محلها. هذا التطور رائع ويستحق التحية في حد ذاته، فعلي الأقل باتت لدي الحزب الوطني فرصة لضخ دماء جديدة في شرايين دماغه التي كاد التصلب يسيطر عليها. غير أن مشكلة الحزب الوطني أعمق من ذلك بكثير، فمهمة إصلاح الحزب الوطني هي بقدر صعوبة مهمة إصلاح الدولة المصرية وجهازها البيروقراطي العتيق، بل إنها بقدر صعوبة مهمة إصلاح المجتمع المصري نفسه. فالحزب الوطني هو أكبر الأحزاب السياسية في مصر رغم النتيجة المخيبة التي حققها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فالحزب يضم في عضويته جميع ألوان الطيف الاجتماعي والإيديولوجي والثقافي الموجودة في المجتمع المصري، حتي أنه يكاد يكون صورة مصغرة من المجتمع المصري نفسه، الأمر الذي يميزه عن الأحزاب والجماعات السياسية الأخري، التي هي أقرب للجماعات الإيديولوجية. هذه الطبيعة المميزة للحزب الوطني والتي يمكن اعتبارها ميزة إذا ما نظرنا إليها من منظور معين، هي نفسها نقطة الضعف الرئيسية التي يعاني منها الحزب. ففي نظام سياسي تعددي يجري التنافس بين أحزاب سياسية لكل منها شخصيتها السياسية والإيديولوجية المميزة، وبقدر ما يتمتع الحزب بشخصية إيديولوجية وسياسية متبلورة، بقدر ما يكون بإمكانه الحفاظ علي هويته وتماسكه في مواجهة خصومه، وبقدر ما تمتع بالقدرة علي التحرك ككيان موحد ومتماسك في مواجهة تقلبات السياسة وضغوطها، وبقدر ما تمكن من فرض انضباط ا طوعي علي أعضائه. ومع أن الحزب السياسي، أي حزب سياسي، يسعي لتحقيق الأغلبية، ويتمني لو استطاع أن يحصل علي تأييد الناخبين، كل الناخبين، فإنه يسعي لتحقيق ذلك عن طريق جذب هؤلاء للأرضية الإيديولوجية والسياسية للحزب، وليس عن طريق تمييع هويته لتلائم كل الناخبين. فالحزب الوطني هو حزب من نوع خاص، ولكنه ليس شاذا، فالكثير من الأحزاب السياسية في العالم، خاصة في البلدان النامية، تعرف مثل هذا النوع من الأحزاب، والتي هي أقرب للمؤتمر الذي تجتمع فيه طبقات الأمة وجماعات المصالح المختلفة فيها وتلاوين ومشارب إيديولوجية عدة، منها للحزب السياسي الذي يقوم علي تمثيل طبقة اجتماعية محددة أو تحالف لطبقات اجتماعية معينة لها سمات إيديولوجية واضحة. وعادة ما ساد هذا النوع من الأحزاب المجال السياسي في بلاد العالم الثالث أثناء مرحلة الكفاح من أجل التحرر الوطني، والتي فرضت وحدة الأمة بكل طبقاتها ضد المستعمر. وقد عرفنا هذا النوع من الأحزاب في مصر قبل عام 1952، فحزب الوفد في مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال حتي تم حله في عام 1953 لم يكن حزبا سياسيا تقليديا، وإنما كان مؤتمرا اجتمعت فيه الأمة كلها، وهي نفس الخبرة التي قدمها للهند حزب المؤتمر، والذي حملت هذه الظاهرة اسمه من بعده، فتم تعميمها علي بلاد أخري كنمط متكرر من التنظيم السياسي تفرزها احتياجات الشعوب في بعض المراحل، خاصة مرحلة التحرر الوطني والكفاح ضد المستعمر. لقد أعطي حزب المؤتمر الهندي لهذه الظاهرة الحزبية اسمها، ولكنه هو نفسه لم يقف عند حدودها. فقد تجاوزت الهند مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، وتجاوز النظام الحزبي فيها تلك المرحلة، وتحول المؤتمر إلي حزب حقيقي للطبقات الوسطي والدنيا ذات التوجهات العلمانية، بينما انضوت الطبقات والفئات الأخري في المجتمع الهندي في أحزاب سياسية أخري. وبقدر ما مثل هذا التحول إضعافا لمكانة حزب المؤتمر في السياسة الهندية، وحولته من حزب يقف فوق مستوي المنافسة إلي حزب عادي يدخل إلي الحكم ويخرج منه حسب نتائج الانتخابات، بقدر ما مثل هذا التحول نضجا للتجربة السياسية والديمقراطية الهندية، حيث تحولت من أمة تكافح من أجل الاستقلال إلي أمة تكافح من أجل التنمية والعدالة الاجتماعية. أما في مصر فقد طال أمد ظاهرة المؤتمر حتي تجاوزت مرحلة الكفاح الوطني ضد المستعمر التي انتهت منذ زمن. وتمثل هذه الاستطالة مشكلة في حالة الفشل عن تطوير الآليات والترتيبات الضرورية لتكييف "الحزب/المؤتمر" مع مقتضيات بيئة سياسية واجتماعية طبيعية لم تعد مهجوسة بالصراع مع الخارج، وإنما بالصراع من أجل اقتسام السلطة والثروة وحول صورة المجتمع المرغوب، وهو التكيف الذي مازال علي الحزب الوطني أن يمر به. وفي الحقيقة فإن الحزب الوطني قد تكيف مع هذا التحول في السياسة والمجتمع المصريين، ولكن بالطريقة غير الصحيحة. فعوضا عن الحزب/المؤتمر الذي ضم كل طبقات الأمة، وهو ما كان عليه الحال في مرحلة التنظيم الواحد التي ورثها الحزب الوطني، تحول الحزب الوطني إلي شبكة تضم أصحاب المصالح المحلية، والتي أصبح نفوذ الحزب ومكانته السياسية محصلة النفوذ الذي يتمتع به هؤلاء، وهو ما يبرر لبعضهم الاعتقاد بأنهم أقوي من الحزب في دائرة نفوذهم، حتي وإن لم يكونوا أقوي منه علي المستوي الوطني. غير أن هذه الصيغة قد وصلت لمنتهاها، ولم يعد من الممكن توظيفها سياسيا لفترة أطول من ذلك، خاصة بعدما ظهر عليه الحزب من تراخ وتردد إزاء المنشقين علي قراراته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة كما في سابقتها. وبالتالي فإنه بات علي الحزب الوطني أن يتجاوز صيغة الحزب/الشبكة أو الحزب/المؤتمر هذه وإلا ظل محتجزا في صورة شبكة المصالح المحلية المتصارعة، التي لا تتيح للحزب سوي قدر محدود من الوحدة الشكلية لا تسمح له أن يعتبر نفسه حزبا سياسيا حقيقيا. التحدي الذي يواجه القيادة الجديدة في الحزب الوطني هو أن تبني للحزب تأييدا يقوم علي تثمين مبادئ الحزب وبرنامجه السياسي وإيديولوجيته الخاصة، علي أن يكون هذه التأييد مستقلا عن صفته كحزب ظل في الحكم لما يقارب العقود الثلاثة، ومستقلا أيضا عن النفوذ والتأييد الذي يتمتع به أعضاؤه من مراكز القوة وأصحاب المصالح المنتشرين علي المستوي المحلي. ففي العلاقة بين الحزب الوطني وأعضائه، خاصة أصحاب المصالح ومراكز النفوذ المحلية، يقف الحزب في الموقف الأضعف، الأمر الذي يجبر الحزب علي الاعتماد علي سيطرته علي الجهاز الحكومي لموازنة القوة التي يتمتع بها أعضاؤه في علاقتهم معه، وهي علاقة لم يعد لها أن تستمر في ظل الانفتاح السياسي والإعلامي والتمايز الاجتماعي الذي بات يميز المجتمع المصري. هذا هو التحدي الذي يواجه القيادة الجديدة للحزب الوطني، وهذا هو المعيار الذي يجب أن تحاكم وفقا له بعد إعطائها الفرصة الكافية.