من الواضح أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، يقودها المتطرفون في البيت الأبيض، تسعي إلي علاج الفشل الذريع الذي لحق بالسياسة وبالقوات الأمريكية في بغداد، وذلك بالتجهيز الهادئ الدءوب لعملية عسكرية، ربما خاطفة، وربما متمهلة، وربما بالوكالة، ضد طهران. وليس من المبالغة قط، أن نقول إن المشروع الإمبراطوري الأمريكي قد انهار بالقدر ذاته الذي انهار به نظام صدام حسين، والمفارقة الأولي أن العالم كان يتحسب للولايات المتحدة ألف حساب مشوبا بالاحترام بعد نجاح الأب جورج بوش في حرب تحرير الكويت، ونشوء ما سمي وقتها بالنظام العالمي الجديد، وكان المقصود به أن تقود الولاياتالمتحدة العالم تحت مظلة القانون الدولي لرد الحق إلي أصحابه، من أجل هذا نجحت واشنطن في تحرير الكويت، وصفق لها العالم، حيث طردت قوات الغزاة العراقيين بقيادة الدكتاتور صدام حسين. ذهب الأب وجاء الابن.. ولاحظ العالم كله مدي التفاوت الصارخ في عقلية الرجلين.. فبينما استعان الأب بالحكماء والعقلاء وكان القانون الدولي مرجعه ودستوره، اختار الابن أن يقع رهينة لفتاوي سياسية وعقائدية ودينية ضلالية، أرغمت حتي أجهزة الاستخبارات علي تطويع المعلومات لخدمة الهدف السياسي الذي وضعه رعاة الظلام في الإدارة الأمريكية، ولكي يتم تطبيقه في الشرق الأوسط وخصوصا في المنطقة العربية. أما المفارقة الثانية، وهي شديدة الارتباط بالأولي فهي أن صدام حسين هزم جورج بوش بقدر ما هزمه الأخير، وتفصيل ذلك أن انهيار النظام العراقي كشف في أعمق جوانب التحليل لهذا الانهيار، عن حدود القوة العسكرية الأمريكية المطلقة، وبات مشهودا أمام العالم كله أن الإمبراطور الأمريكي يحظي بآلام موجعة في العراق، ولا يزال يتحدث عن إحراز النصر.. ومعني هذا أن النصر لم يتحقق بعد، وأن الخسائر العظيمة التي أعترف بوش ذاته بوقوعها في قواته، هي الحقيقة المؤكدة المعلنة. هل كانت حرب العراق.. ضرورية.. ومبررة؟! إن بوش ذاته يعلم الآن ما لم يكن يعلم أنه ضروري.. ومبرر.. يعرف الآن بعد سقوط سحب التضليل التي غشيته علي يد كبار المحيطين به أن هذه الحرب لم تكن ضرورية.. وإزاء اكتشاف هذا الواقع الصادم، فإن الإدارة الأمريكية حولت مجهودها السياسي والإعلامي.. والتهديدي، من البحث عن أسلحة الدمار الشامل، إلي البحث عن الديمقراطية في المنطقة العربية، وصار مطلب الديمقراطية يتصدر اهتمامات واشنطن.. بينما تراجع مطلب العثور علي أسلحة الدمار الشامل.. الذي كانت تعلم جيدا أن صدام حسين لا يملك منها شيئا. واليوم.. يتجدد سيناريو التعثر ذاته.. علي جبهتين: جبهة في دمشق وجبهة في طهران، والارتباط السياسي عضوي بين العاصمتين نظرا للتنسيق السياسي والعسكري والأمني البالغ بين سوريا وإيران من ناحية، ونظرا لتأثير الدولتين معا علي الأوضاع في فلسطين وإسرائيل ثم الأوضاع في العراق من ناحية أخري. بالنسبة لسوريا، نجحت أمريكا في استثمار الغضب الفرنسي علي دمشق إثر نجاح الأخيرة في توجيه ضربة للديمقراطية اللبنانية وفرضت إميل لحود رئيسا لفترة ثالثة رغم أنف الدستور اللبناني.. ثم ركبت أمريكا موجة الغضب بعد اغتيال الحريري ودفعت الملف إلي مجلس الأمن الدولي.. في تحرك عكست استيعاب الخطأ الجسيم في العراق حيث قررت واشنطن الخروج من المظلة الدولية، وبالنسبة لطهران، فإن الولاياتالمتحدة تكرر السيناريو ذاته، فهي تستثمر الرفض البريطاني الألماني الفرنسي لرغبة إيران في تخصيب اليورانيوم خشية أن يقودها ذلك إلي حيازة سلاح نووي في بضع سنين.. ويتم التهديد حاليا بإحالة الملف إلي مجلس الأمن.. ومن الواضح أن أمريكا التي لا تكف عن التهديد من وقت لآخر علي لسان رايس وزيرة خارجيتها بأن كل الخيارات مفتوحة (تصريحات مشابهة لتلك التي سبقت حرب أمريكا علي العراق).. هي ذاتها أمريكا التي تحاول إظهار لجوئها إلي الأسرة الدولية والقانون الدولي في مواجهة الطموح الإيراني.. حسنا.. إن الغرب لا يريد قنبلة نووية أخري في المنطقة.. والغرب يعلم أن إسرائيل تحوز هذه القنبلة النووية.. وإذا وضعنا في الاعتبار نموذج الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في التعامل مع موقف الخوف الغربي علي إسرائيل النووية إذا تسلحت إيران نوويا، فإننا سنجد مفارقة غريبة تستدعي نموذج الأداء السياسي الغامض المنفلت للرئيس العراقي صدام حسين إبان حرب الخليج الأولي "غزو الكويت وتحريره" ثم حرب الخليج الثانية "غزو العراق وتدميره". إن الرئيس الإيراني يبدو مهووسا بإطلاق التصريحات التي يسارع الغرب بتحويلها إلي أسلحة ضده في الحال. ولم يكف عبر الشهرين الماضيين عن التأكيد علي أن الهولوكوست وهم وعلي أن إسرائيل مزروعة وعلي أن أوروبا أولي بها.. وغيرها من التصريحات. وفي الوقت ذاته، والعالم كله متأجج ومتحفز ضد هذه التصريحات، نجد العناد علي الاستمرار في البرنامج النووي الإيراني. المفارقة الثالثة.. إنه إذا كانت إيران لديها طموح سلمي سياسي في برنامجها النووي.. فلماذا إثارة كل هذا القدر من الغموض حولها؟! بل أقول: إذا كانت النوايا سليمة.. فلماذا أستفز الغرب ضدي؟! إن البرادعي مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية حذر من نفاد صبر الغرب.. وحذر أيضا من أن يكون لطهران برنامج نووي عسكري سري.. وبصراحة.. هل نحن بحاجة إلي قنبلة طهران النووية (هذا إذا تركها الغرب وأغمض عينه ولم يعمل لحساب إسرائيل كالعادة)؟! هل المنطقة بحاجة إلي قوة نووية إضافية وهل تكون هذه القوة إضافة إلي الأمن القومي العربي الإسلامي أم تكون سلاحا ضده؟! بالتأكيد، نحن ضد حيازة أي دولة في المنطقة لأسلحة الدمار الشامل.. وهو ما أكدته مصر في مناسبات عديدة، ونحن ضد انفراد إسرائيل بالقوة النووية، وهذا الانفراد الذي يعني الهيمنة، فضلا عن احتلال الأراضي العربية واضطهاد الشعب الفلسطيني، ناهيك عن الاحتلال الأمريكي ذاته للعراق وتدميره، كل هذا يغذي الإرهاب ويزعزع الاستقرار في منطقة لم تنعم بالسلام قط. ولاشك أن التصريحات الأخيرة لسعود الفيصل وزير الخارجية السعودي قد أصابت الحقيقة حين جعلت السياسات الأمريكية والأوروبية تجاه إسرائيل النووية هي السبب الرئيسي وراء الموقف الإيراني.. وإنه يرفض حيازة طهران لسلاح نووي عسكري.. وتتسق هذه التصريحات مع الموقف المصري الذي عبر عنه أحمد أبو الغيط وزير خارجية مصر وقال فيه إن مصر ترفض ظهور قوة نووية أخري في المنطقة وأن المطلوب إنهاء حالة التسلح النووي لدي كل الأطراف في إشارة إلي إسرائيل. نحن بالفعل.. لا نريد أية قوة نووية في المنطقة.. إسرائيلية أو إيرانية أو أمريكية.. ولابد فعلا من إخلاء المنطقة من كل أسلحة الدمار الشامل.. سواء كانت أسلحة كيماوية أو نووية أو بيولوجية.. أو الظلم الأمريكي الذي يرعي الإهانة للناس في العراق.. ويحمي الإرهاب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. المفارقة الثالثة أدعي للضحك.. لقد ذهبوا إلي العراق ليقيموا الديمقراطية.. بعد أن فشلوا في العثور علي النووي والكيماوي.. ورغم صراخهم ليل نهار علي السيدة المشبوهة الآن بفضلهم.. فإنهم يرفضون هذه الديمقراطية ذاتها في الأراضي الفلسطينية إذا جاءت لهم بمنظمة حماس عبر أصوات الناخبين وصناديق الاقتراع! ماذا يريدون بالضبط؟! يريدون ضبطنا علي مصالح إسرائيل.. وبعدها فليذهب العالم إلي الجحيم!