إن مجرد اكتشاف البديهي، لا يوفر ذريعة مقنعة لشن الحرب علي إيران. كما أن عرض الذخائر والأسلحة الإيرانية الأصل، الجاري الآن في بغداد، لا يفعل شيئاً آخر سوي إثارته في الأذهان، لإعلان "كلود رين" الشهير، عن مدي دهشته إزاء اكتشافه لحقيقة ألعاب القمار في صالون كزابلانكا المملوك ل"همفري بوجارت"، الممثل والماجن الأمريكي المعروف! وقد أثار الشكوك حول "عروض بغداد" هذه، عدد من منتقدي إدارة بوش، ومن المختصين في الأسلحة الإيرانية، إلي جانب عدد من الصحفيين والمحللين. علي أنني أعتقد مع ذلك أنه لا يستبعد أبداً، أن تقدم طهران علي تسليح المليشيات والمتمردين الشيعة في العراق. ولمَ لا _يقول بعض أنصار إيران- وقد واصلت الولاياتالمتحدةالأمريكية جهودها ومساعيها لإسقاط النظام الحاكم في طهران منذ عام 1979؟ إلي جانب رعايتها ودعمها لمعارضي النظام، ومواصلة موقفها المعادي عموماً لنظام طهران. بل إن هناك من يتحدث عن وجود بعض العملاء الأمريكيين داخل الأراضي الإيرانية، ممن ينشطون في حض وتحريض الأقليات الكردية والتركمانية ضد نظام الملالي. ومنذ بدء العام الحالي، تعالت أصوات عديدة في واشنطن مهددة بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بما في ذلك ترويج الشائعات عن احتمال قصفها بالقنابل، التي لا يستبعد المبالغون أن يكون بعضها نووياً تكتيكياً، بقصد تدمير منشآت إيران ومرافقها النووية. وبسبب المحاذير والمخاطر التي يتوجسونها من أمريكا، فإن من الوارد أن يفعل بعض الإيرانيين كل ما في وسعهم في سبيل جعل الاحتلال الأمريكي للعراق، باهظ التكلفة إلي أبعد حد ممكن. لذلك وحتي إذا ما ألقي القبض علي إيرانيين متلبسين بعملية توفير الأسلحة للمتمردين الشيعة هناك، فإن ذلك لن يغير من المعطيات شيئاً، ولن يفل من عزم واشنطن، علي توجيه ضربة عسكرية تحت كل الأحوال، وبصرف النظر عن الرأي العام الأمريكي. وفي 8 فبراير الجاري، كان "زبجينيو بريجنسكي"، مستشار الأمن القومي الأسبق، قد أشار للجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، إلي احتمال عزم الإدارة علي توجيه ضربة عسكرية إلي طهران. ووصف ضمن إشارته تلك، سلسلة من الأفعال والتحركات التي ربما تتخذ ذريعة لشن الحرب المحتملة تلك. وقال ضمن ذلك، إنه في دوائر الإدارة وفي أوساط حلفائها من "المحافظين الجدد"، تتردد أصداء قصة أسطورية تاريخية، بغية تبرير الحرب وتسويغها. وتدور خيوط تلك القصة، حول مزاعم تري أن الحالة في الشرق الأوسط وخاصة في إيران والعراق، تشكل محور صراع ايديولوجياً حاسماً لجيلنا، عقب طي صفحة الصراع الايديولوجي السابق ضد كل من النازية والستالينية. وكان أول من صاغ هذه الفكرة وقدمها "نورمان بودوريتش"، وهو من أشد غلاة اليمين الأمريكي المتطرف. وليس في هذا القول سوي لغو لئيم. فما الهراء واللؤم إن لم يكونا هذه المقارنة المجانية الرخيصة، بين نظامين شموليين عالميين، مثلت أحدهما ألمانيا، التي كانت بمثابة أكبر وأهم قوة صناعية في مرحلة ما قبل الحرب بغض النظر عن الموقف من العنصرية النازية الممقوتة طبعاً، بينما مثلت النظام الآخر، روسيا التي تحولت إلي دولة نووية في أعقاب الحرب، بغية اكتسابها موقعاً دولياً مهيمناً بين بقية قوي العالم ودوله من جهة، بظاهرة التطرف الديني في الشرق الأوسط، التي لا تعد سوي قوة ثانوية طفيفة الوزن في وسط المجتمع الإسلامي المعاصر نفسه، بينما تكاد تكون قوة مجهولة تماماً خارج نطاق دول العالم الثالث من جهة أخري؟! والحقيقة أن تلفيق هذه القصة الأسطورية الساذجة، قد اعتمد علي فهم سطحي ساذج هو الآخر، لصيرورة العالم وتقدمه. والحقيقة أن هذا الفهم نفسه، قد لقي قبولاً وترحيباً من قبل الإدارات "الديمقراطية" الأمريكية السابقة، وكذلك من قبل القوي السياسية الليبرالية، فضلاً عن ترحيب المستثمرين الأمريكيين المحافظين، وحمَلة الايديولوجيا الجديدة المحافظة المتعصِّبة. وتزعم هذه القصة أنه كلما ازدادت العولمة وتكاملت المجتمعات البشرية اقتصادياً، كلما اتجه العالم بلا توقف ولا عراقيل صوب الازدهار والديمقراطية العالمية. وعلي نحو ما تنبأ "روجر كوهين" في مقالة له نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز": "فإن البشرية مقبلة علي قرن جديد، تسود فيه الوحدة والتكامل عالمنا المتعدد، ويكون فيه العالم أكثر ازدهاراً وتحرراً وديمقراطية، من أي وقت مضي". وتستدعي سذاجة هذا المفهوم عن التقدم، تهويلاً وتضخيماً مكافئين لها بالضرورة، مصحوبين بإثارة المخاوف والفزع من أية عقبة تعترض طريق هذا التقدم. وتحت تأثير ذلك الوهم، نشط "المحافظون الجدد" في دق نواقيس الخطر، من فكرة نسبوها للجماعات الإسلامية المتطرفة، قوامها سعي تلك الجماعات لإنشاء "خلافة إسلامية جديدة"، تشمل منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ويتسع نطاقها ليشمل كلاً من أفريقيا وأسبانيا وبريطانيا المسلمة، ومنطقة البلقان والسواحل الأوروبية الواقعة علي البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلي المنطقة الواقعة في وسط القارة الآسيوية.