إذا ما أردت أن تقف علي سر من أهم أسرارالعقل العربي، وتناقضاته الفادحة ، فما عليك إلا أن تفتح أي فضائية من فضائياته التي يصعب حصرها، أو تجري أي استقصاء لمشاهديها حول أي موضوع من الموضوعات، أو قضية من القضايا لتعرف سر هذا الازدواج المرضي، الذي تتوارثه الأجيال، وتفاخر به الركبان. أطرح - مثلا - سؤالاً عن رأيهم في الديمقراطية، أو الحربة، أو التطبيع، أوالنقاب أوموقفهم من حركة حماس، أو طالبان، أوحزب الله، أوالدور المتنامي لإيران في المنطقة العربية؟ أو الجدار الذي تبنيه مصر علي حدودها الشمالية الخ..وسوف تفاجأ بكم هائل ومخيف من الجهل والاتباع، والتعصب الأعمي والسذاجة، والسطحية المفرطة، في اتصالات أغلب المشاهدين والمستطلعين، ففيما يتصل بمزج الدين بالسياسة- مثلا- قد تجد أن النزعة الطالبانية - نسبة لحركة طالبان - والقاعدية - نسبة لمنظمة القاعدة - باتت تشكل مرجعيتها الأولي، وتطبعها بطابعها ولم يعد الأزهر أوغيره من المؤسسات، مرجعا يقتدي، أويؤخذ بفتواه، وما يثيرالسخرية أن ذلك يتم من قبل أناس لايعرفون الفرق بين حرف الجر، وحرف العطف !! ولايعرفون بحكم أميتهم الأبجدية أو الثقافية، إلا بعض الآيات و الشعارات والعبارات المحفوظة عن ظهرقلب! وهو مايتيح لهم ان يبرروا أي فعل أو سلوك يقترفونه بما في ذلك القتل والسرقة والعدوان علي الآخرين.. كل الآخرين!والأخطر من ذلك هو أن بعض رجال الأزهر- ولأسباب يطول شرحها - باتوا إمعانا في الحداثة، ومجاراة الواقع(يتطلبنون) ويتشددون في أمور سبق حسمها بشكل أو بآخر. ومن ثم صار الكلام حول حل وحرمة لحم العفريت، ورضاع الكبير، والبول و اللعاب والفرق بين الجني المؤمن والجني الكافر، غيرها من قضايا، لاتخجل أحداً بل بات أكثرهم تشدداً وتزمتاً، هو أكثرهم قبولا لدي هؤلاء وأولائك!وهو مايثير سؤلاً بسيطا وساذجا في آن : إذا كنت تعرف أكثر من المفتي ومن شيوخ الأزهر، فلماذا تسألهم أصلا ً؟ مادمت ضليعا، وتملك كل هذه الخبرة والمعرفة والإحاطة؟!! والحق أن ماحدث للمصريين خلال العقدين الأخيرين لايخفي علي أحد.. ولايحتاج لتحليلات عميقة، حيث تأثر ذوقهم، وتغيرت أفكارهم، وقل تعاونهم بشكل لايمكن تجاهله، كما اتخذ بعضهم من الدين ستاراً لردع الآخرين، وتكأة للفخار الاجتماعي!! وباتت( الذبيبة)أهم من عمل الخير، وتبريراً لغلظة القلب، وجفاف الوجدان !!غير أن ماحدث للمصريين لم يحدث لهم وحدهم، فهي- في حقيقة الأمر- أزمة خطاب ماضوي، اجتراري، لاسيما حين يتعامل مع الواقع بمنطق غير واقعي، ويأخذ معاييره من جراب قديم، ويستخدم أدوات قديمة لصنع واشباع حاجات جديدة.ولا أدل علي ذلك من تلك الاستطلاعات التي تجري عبر الفضائيات العربية وغيرها حيث تطرح سؤالا تكاد تعرف إجابته مقدما وهو:هل تحب أمريكا؟ وسوف يظهر الاستفتاء مايلي:89%قالوا نعم 6% قالوا لا، و5% لم يعقبوا. رغم أن أغلبهم لايعرف أين تقع أمريكا، ولماذا يكرهها بالضبط!! ونحن هنا لاننكربشرية مثل هذا السلوك، أي أنه يمكن أن يحدث في كل مكان بوصفه خصيصة إنسانية تكاد تكون عامة، غير أن الفرق بين الشعب الناضج المثقف، والشعب العاطفي البدائي الأمي، هو أن الأول يعرف لماذا يحب أو يكره أمريكا، وهل هو حب، أوكره دائم، أم عارض، في حين يكتفي الآخر بماقيل له وماتكون لديه من انطباع، وردود افعال سطحية متسرعة.تغلب الانطباع علي الاقتناع، ولاشك أن هذه الرؤية للعالم وللآخرين، قد اضاعت فرصا كثيرة علي العرب والمسلمين معا، ليس لأنها وصمتهم بالإرهاب والتواكل فحسب، وإنما لأنها قد تحول بينهم وبين دخولهم عصر العلم والتقدم والمشاركة، في عصر لم يعد فيه مكان أو مكانة لمن يتأخر لحظة، وباتت الأسواق والمصالح والمطامح تؤخذ بالنواجذ! غير أن مايثير القلق هو تصاعد العنف الديني والعنصري لدي شرائح وطوائف واسعة من المسلمين الشباب، وهو مايهدد الأمن القومي لأوطانهم، والوحدة الوطنية التي تربط الجميع، ولدينا عشرات الحالات التي وضعت فيها كثير من الدول علي المحك، لعل أقربها: أحداث بومباي الأخيرة بين الهند وباكستان، ومايحدث من صراعات عبثية بين الطوائف الصومالية، والعراقية، واليمنية، واللبنانية وغيرها ولعل الأخطر من كل ذلك، يكمن في انقسام هذه الطوائف والجماعات علي نفسها، وعلي منشئيها - الشيخ شريف رئيس المحاكم الشرعية في الصومال نموذجا - فما تكاد تتشكل جماعة من الجماعات، وتقوي شوكتها، حتي تتمرد علي قائدها الذي تصور ذات لحظة أن تشدده سيجلب له الأنصار، والمريدين، وإذا به يكتشف أن ثمة من هو (أشد) منه وأعنف، وما أسهل - بعد ذلك - أن يتهمه بالعمالة أو الممالأة أو التفريط في حق من حقوق الله، وغيرها من اتهامات محفوظة وجاهزة للانطلاق في أي وقت، ولاتحتاج الأمور لإعمال عقل، أو تدبر، بوصفها قضية قديمة ومسبوقة في تراثنا، وادبياتنا العربية.. وعادة مايفقد هذا (الحريص) السيطرة علي أنصاره إما لأنه يبالغ في تشدده وتطرفه، أو لأنه يتهاون ويتصالح مع مناوئيه!!ومن ثم فمن الحمق أن تنتظر من شخص يكره نفسه، أن يحب غيره، أو يعمل علي إسعادهم، وبالمقابل لاتنتظر ممن لايعيش إلا علي الماضي أن يقدم أي رؤية للمستقبل، ومايؤسف له أن هذا النموذج يتعاظم كل يوم، ويهدد كل أمل بالتحقق أو الانفتاح علي العالم، والسعي لإعمار الأرض، والسعي في مناكبها، في الوقت الذي يتزايد فيه - بالمقابل- ملايين المتعاملين مع وسائط الاتصال الحديثة كالإنترنت والموبايلات الفائقة التطور، وهو ماينذر بسيناريوهات صدامية: بين من يؤمن بالعلوم، والتكنولوجيا الحديثة، ومن يقاوم كل جديد بوصفه بدعة وضلالة! والحق أن هذه ليست المرة الأولي التي تواجه فيها مصر مثل هذه الغزوات من دول أقل حضارة وثقافة، لكنها الأولي التي يهاجر فيها المصريون إلي بلاد بدوية- رعوية- ويعودون بثقافتها المحافظة في هجرة معاكسة، ولأن أغلب المهاجرين- مؤقتة وغير مؤقتة- من الطبقة الدنيا، أي من صغار الفلاحين والحرفيين، وأنصاف المتعلمين - وبعض المتعلمين - فقد سهل اختراقهم ثقافيا واجتماعيا، ولأن حصانتهم، كانت ضعيفة، فقد اقترنت هذه الثقافة لديهم بأكذوبة الثراء -البترولي المؤقت - وحل أزماته الشخصية! ومن ثم لم يجد بعضهم بأسا في العودة بالعقال والدشداشة والشبشب، والنساء بالنقاب والجوانتي، وعطشوا الجيم -التي تميز اللهجة المصرية - وهي لعبة لايمكن تبرأتها من أوحال السياسة، وفرض دور إقليمي بغض النظر عن مقوماته ووسائله لأن من يلبس وتقنع من الخارج كشف عن مكنونه الداخلي لبسه من، وهو معذور بسبب وعيه وثقافته ومصلحته.. ولكن ماعذر من تعلم تعليما مدنيا راقيا -بكامل رضاه واختياره؟ كمدرسي الجامعة والأطباء والمهندسين، والصحفيين، ومن في حكمهم ؟!إن المرء لايملك إلا أن يندهش حين يري مثل هذه (الانقلابة) المفاجئة، حتي ممن كنا نحسبهم علي الصفوة، والحق أن العامل الجغرافي والديني واللغوي، والثروة المفاجئة ووسائل الإعلام الحديثة قد لعبت دورامحوريا في ذلك، وقد ساعدها علي ذلك تقاعس الحكومات المتعاقبة وافتقارها للحنكة والشفافية وتصدير الأولويات حيث تصور بعضها أن صراعها الأول ينبغي ان يتمثل في توفير الضروريات.. ونسي أن من سيعمل علي توفير ذلك هم البشر..وأنها بدون تنمية بشرية وإعمال لحقوق الآخرين لن تحقق أي شيء!!