حوار استغرق 10 أيام مع الكاتب التسعيني يوسف الشاروني لاأشغل نفسي بكوني كاتبا قبطيا في مجتمع غالبيته مسلمون ..و لامكان لهذا الموضوع في أجندة مثقفي مصر الصراع بين البروتستانت والكاثوليك كان مسيطرا على تفكير الباحثة الإنجليزية كيت دانلز ..وحاولت في رسالتها للدكتوراه حول إبداعي القصصي أن تعكسه على المجتمع المصري. في كتابي "الجائزة " ردي على من منحوا جائزة ملتقى القصة القصيرة لزكريا تامر وتجاهلوني . أنا شكل ويوسف إدريس شكل آخر ..وكل منا له جمهوره ومتذوقوه. لاأدعي أنني أكتب نقدا ..بل قراءات قاريء إيجابي ! حاوره : محمد القصبي هذا الحوار ليس كحال كل الحوارات الصحفية انبثاق جلسة واحدة .. بل لقاءات متعددة ..ومكالمات هاتفية شبه يومية خلال االأيام العشرة الأخيرة .. وبدا الأمر طبيعيا ..كحال علاقتنا منذ مايرقب من ثلاثة عقود .. حين نلتقي أو نتهاتف..أو نتراسل عبر البريد ..إن انشطرنا جغرافيا ..وقد حدث هذا عندما غادر أستاذي مسقط عائدا إلى مصر في مطلع تسعينيات القرن الماضي ..ولم ألحق به إلا في أواخرها ..فكان البريد وسيلة تواصلنا الإنساني والفكري..وفي كل حوار نتجادل حول الكثير من القضايا الأدبية ..نختلف .. نتفق ..لكن يقينا ..ومع نهاية كل حوار يدنو كل منا من الآخر .. خطوة محبة . وحين انتهينا – رئيس التحرير الكاتب جمال حسين ..والفنان أحمد عبد النعيم وأنا – إلى أهمية إصدار ملحق ثقافي لجريدة المسائية ..واتتني فكرة أن ندشن الملحق بحوار مع أستاذي العظيم يوسف الشاروني ..ليس فقط بمناسبة بلوغه سن التسعين وتلك الاحتفالية الرائعة التي نظمتها لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة له ..بل لأن هذا الرجل حدوتة فريدة في عالم الأدب ..فإن كان للحواديت عناوين .. فعنوان حدوتة الشاروني "الإرادة " .. ..عقب انتهاء احتفالية المجلس الأعلى للثقافة .. سمعت الروائي الكبير يوسف القعيد يقول لقناة تليفزيونية أن يوسف الشاروني يبرهن خلال مشواره الأدبي أن الأدب إرادة أكثر منه إمكانية ..إن لم تخني الذاكرة أظنه قال هذا أو شيئا شبيها به .. وفي اليوم التالي هاتفت أستاذي ..وتبادلنا الانطباعات حول الاحتفالية ..فقلت له ماقاله القعيد ..فأسرع للتصحيح : (بل إرادة وإمكانية بنفس القدر لكنني فاجأته : -لم هذا الطريق .. الكتابة أعني ؟ وبدا أنه لم يفاجأ ..وقال بهدوء : في مقتبل عمري ..سألت نفسي : أيهما أفضل لي ..أن أهدر وقتي على المقاهي أم أجلس في البيت أقرأ وأكتب ..؟ وكانت الإجابة الثانية ..وفي الحقيقة ..لم تكن الكتابة هي خياري ..أنا لم أختر أن أكتب ..الكتابة هي التي اختارتني .. -لكن 75 عاما من السير في طريق ليس مجديا بالمعنى الاجتماعي على الأقل ألايبدو أمرا غريبا ؟ ماذا تعني بليس مجديا ؟ سألني أستاذي .فقلت : -كما نرى.. الكتابة ليست بالسلعة الرائجة ..وكما قلت خلال كلمتي في الاحتفالية أن حدوتة يوسف الشاروني وحواديت كل الكتاب لاتجد من ينصت لها ..لأننا مجتمع غير قروء ..القاريء في مصر والعالم العربي انقرض ! بدا مستهجنا ما قلت : (لا أتفق معك ..كتبي توزع جيدا ..هناك من يقرأ لي. -كم تطبع ؟ (حوالي 3ألاف نسخة للكتاب وتنفد ..وهناك كتاب لي طبع 12 ألف نسخة وأيضا نفدت ! -أستاذ يوسف ..هل تشعر بالظلم ..أعني هل لديك أي إحساس بالمرار مرجعه أن مسيرة 70 عاما من الكتابة لم تقابل من النقاد والإعلام بما تستحقه من اهتمام ؟ ( لا..ليس لدي هذا الشعور -لكن من واقع قربي الانساني منك ..أشعر أحيانا بأنك تضمر شيئا من الحزن لأنك لم تحصل على جائزة النيل ؟ (ليس جائزة النيل ..بل جائزة ملتقى القاهرة الدولي الأول للقصة العربية القصيرة عام 2009التي منحت للكاتب السوري زكريا تامر ..لهذا أعددت كتابا عنونته ب" الجائزة " يحتوي على شهادات من أكثر من 30 كاتبا حول مشواري الأدبي.. من بينهم مقال لك كتبته في مجلة الأسرة العمانية ردا على هجمات بعض الكتاب العمانيين حين بدأت أنقب عن التراث القصصي العماني وأكتب عنه ..وأريد أن أقول من خلال هذا الكتاب ومن خلال هذه الشهادات أن جائزتي الحقيقية هم هؤلاء القراء المبدعون. أنا غير إدريس -ميلادك الأدبي واكب ميلاد الكاتب الكبير يوسف أدريس ..لكنه نال شهرة واستقطب الإعلام بشكل يفوق ماحدث معك ..ألم يؤلمك هذا ؟ (أبدا ..كل منا كانت له طريقته في الكتابة ..إدريس كان ينزع إلى الواقعية ..بالشكل الذي استمال إليه الإعلام والنقاد في تلك الفترة التي شهدت مدا اشتراكيا ..أما أنا فنزعت إلى التعبيرية ..وهي نزعة لها جمهورها ومتذوقوها ..فكل منا كان له قراؤه . قضية لاتشغلني كاتب قبطي في مجتمع غالبيته مسلمون ..ألم يجلب لك هذا شيئا من المتاعب ؟ مرة واحدة فقط منذ بضع سنوات اتهمني الكاتب سيد الوكيل في إحدى الصحف أنني خلال عضويتي للجنة التحكيم بجائزة الدولة التشجيعية بالقصة كنت وراء عدم حصوله على الجائزة بسبب اختلاف الديانة ..مع أن الفائز بالجائزة ذاك العام كان مسلما .. وقد كتبت ردا نشر في نفس الجريدة ..ولم أشغل نفسي كثيرا.. لأنه أمر عارض.. كما أن جماعة المثقفين لاتنشغل كثيرا بهذا الموضوع لأنه غير وارد. - أتذكر أنني كتبت أيضا مقالا حول هذا الموضوع في جريدة القاهرة ..وقد أغضبه ماكتبت وتشاجرنا مرة خلال أحد المؤتمرات الإقليمية .. وأحزنني هذا كثيرا ..لأنه إنسان على خلق ..وتعجبني كتاباته النقدية .. وقد سعيت إلى مصالحته واستجاب بنفس صافية لمحاولاتي ..لكن لاأدري من أين استمد اعتقاده هذا ..أنك كنت وراء عدم منحه الجائزة لأنه مسلم ؟ (ليته يقرأ كتاب "دراسات في قصص يوسف الشاروني " الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في 531صفحة للباحث مصطفى بيومي. -أنا قرأته ..وكتبت عنه مقالا في جريدة الوطن العمانية .. وتوقفت كثيرا عند استنباطات وتأملات المؤلف للعوالم الأدبية للقبطي يوسف الشاروني ..وهي استنباطات لم يتطرق إليها أحد من قبل ..مثل أن اسم " محمد " هو أكثر الأسماء شيوعا بين شخصيات قصصك ..يليه اسم "محمود" .. وفي باب المؤثرات الاسلامية والذي يشغل 112 صفحة يرصد المؤلف انعكاس الثقافة الاسلامية على عالمك القصصي في عشرات الشخصيات و الصور والمواقف..حيث يلحظ مدى نجاحك في تجسيد تأثير القرآن الكريم على الحياة الاجتماعية للمصريين ..لكن الباحثة البريطانية كيت دانلز خلال رسالة الدكتوراه التي أعدتها عنك ..ونشرت تحت عنوان مدركات النفس والآخر تنتهي من قراءاتها لأعمالك بأنها تنضح بإحساسك بالقهر لأنك قبطي تعيش في بلد أغلبيته مسلمة !! الباحثة البريطانية غير منصفة في استنتاجاتها ..الصراع المذهبي بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا كان منعكسا على تفكيرها ..وحاولت أن تعكسه على المجتمع المصري من خلال إبداعي ..مثل هذه المشاعر لاوجود لها على الإطلاق في أي من أعمالي .. "أتذكر ماقاله المترجم الراحل محمد الحديدي في تقديمه للكتاب إن أعمال الشاروني التي تناولتها الباحثة في رسالتها وتحمل شخصياتها أسماء قبطية لاتمثل بأية درجة علاقة الأقباط المصريين ببقية المجتمع ..بل علاقاتهم ببعضهم البعض وبالتراث الذي ينتمون إليه ..وكما قال الحديدي لو نزعنا الأسماء التي يعتادها الأقباط المصريون ..كأن نضع اسما مثل زينب أو علية مكان اسم مثل دميانة ..فإن القصة تظل مقروءة على المستوى الحدثي أو الدرامي دون أن تدل إذ ذاك على أنها تصور كبتا أو قهرا سلطويا أو اجتماعيا من أي نوع " . يستطرد أستاذي : تعرف أولادي ؟ -نعم ..الدكتورشريف والأستاذة شادن (كما ترى ..اخترت لهما أسماء عربية أصيلة ..موضوع اختلاف العقيدة لايوجد له أي أثار سلبية في علاقاتي كمواطن وكأديب بالمجتمع..وغير مطروح بالمرة . لم أهادن السلطة -أنت متهم من البعض أنك لست بالمثقف الثوري ..صاحب الموقف من السلطة إن جارت وطغت ؟ اتهامك أنت أم اتهام من ؟ -خلال الاحتفال بعيد ميلادك التسعين في المجلس الأعلى للثقافة ..قال الشاعر شعبان يوسف أنك دائما كنت تؤثر السلامة ..وتتجنب الاصطدام مع السلطة والرد جاء منك ..حين ذكرته بقصة الحذاء التي كتبتها أنا في مطلع خمسينيات القرن الماضي وقبل ثورة 23 يوليو بشهور ..والتي تحكي عن رجل لديه حذاء بال ..كل فترة يتعرض للقطع فيذهب به إلى الإسكافي ..لإصلاحه ..وفي مرة قال له الإسكافي ..لم يعد يصلح ..لابد من تغييره ..الرمز في القصة واضح كما بدا للنقاد والقراء ..الترميم والمسكنات لم تعد تصلح ..لابد من التغيير الشامل ..بل بلغ بك الأمر أنك قلت أنني أنتمي للاشتراكيين الثوريين أو الفوضويين الذين يطالبون بالهدم الكامل من أجل البناء الشامل . -قلت هذا على سبيل المزاح وامتد مزاحك إلى الجريدة ..حين كان هذا عنوانك للتقرير الذي كتبته عن الاحتفالية : هل ينتمي يوسف الشاروني للاشتراكيين الثوريين ؟ -هل أغضبك هذا ؟ (لا..كان ردك على الأستاذ شعبان يوسف جيدا ..لكن ..لماذا تسأل عن أمر أنت تعرفه ..؟ -فقط أردت أن أعرف صدى ماقاله الأستاذ شعبان عليك ..من أنك تؤثر السلامة وتتجنب التصادم مع السلطة (منذ عدة أيام راجعت إبداعاتي القصصية ...ووجدت العديد من القصص غير قصة الحذاء التي تؤكد أنني لم أكن بالكاتب المهادن للسلطة ..مثل قصة " محمد مظلوم " قصة " الأم والوحش" ..قصة "الكسوف " والتي كتبتها عام 1999 وربطت بين كسوف الشمس الذي حدث في ذلك العام كظاهرة فلكية وكسوف العالم العربي كظاهرة سياسية ..وأيضا قصة "الطريق إلى المعتقل" ..قصص كثيرة تؤكد أنني لم أكن أبدا بالكاتب المستكين . -خلال الاحتفالية قالت الناقدة الكبيرة الدكتورة أماني فؤاد أنك تكتب نقدا إبداعيا ..ألا يغضبك هذا ؟ (أنا لاأدعي أنني أكتب نقدا ..ما أكتبه عن قراءات الآخرين هو نتاج قراءات لقاريء إيجابي . - -وقال أيضا كاتبنا الكبير يوسف القعيد أن مسيرة يوسف الشاروني الأدبية تؤكد أن الكاتب إرادة أكثر منه إمكانية .. - (بل الإثنان معا ..الكاتب إرادة وإمكانية. - السنوات العمانية -أمضيت بضع سنوات في سلطنة عمان .. ماذا تعني هذه الفترة في مسيرتك الأدبية ؟ (الكثير .. يكفي أنها كانت البوابة التي عبرت منها إلى العالم العربي خاصة دول الخليج ..وقبل رحلتي إلى عمان اقتصرت علاقتي بالعالم العربي على اتصالات ببعض أدباء العراق وسوريا وفي مقتبل حياتي بمجلة الآداب البيروتية التي نشرت فيها بعضا من قصصي ومقالاتي ..لكن خلال إقامتي في السلطنة اتسعت رؤيتي للحركة الأدبية خاصة في دول الخليج ..وشاركت في بعض المؤتمرات بدولة الإمارات والكويت . ..ونشرت العديد من أعمالي في مجلات خليجية كمجلة الدوحة القطرية والمنتدى الإماراتية والعربي الكويتية...واتسعت دائرة علاقاتي بالأدباء الخليجيين والعرب والذين التقيت بهم في عمان ودول خليجية . -ومؤلفاتك عن عمان ؟ (ثمانية كتب .. -أظن أنك أصدرت حتى الآن 55 كتابا ؟ (نعم ..وتحت الطبع أربعة كتب أخرى ..الأول عنوانه مباهج التسعين ..الثاني كتاب الجائزة الذي حدثتك عنه ..الثالث كتابات نقدية كتبها الآخرون عني ..والكتاب الرابع عنوانه " الإبداع في الأدب وعلم الاجتماع " كتبته عن الدكتورة سامية الساعاتي . - وكتاب توتة توتة خلصت الحدوتة الذي حدثتني عنه منذ عدة سنوات على أنه سيكون آخر أعمالك؟: قال ضاحكا : (عملت بنصيحتك وأجلت نشره ..!