توالت ثورات الأمصار الإسلامية على حكم الأُمويين، فاندلعت ثورة العراق سنة 81 ه بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، الذي بايعه معظم أهل العراق من أهل الكوفة والبصرة، وعلى رأسهم القراء والفقهاء. حيث قدر الطبري عدد القراء الذين شاركوا في ثورة ابن الأشعث بأربعة آلاف قارئ. وبعد فشل الثورة استحل جلاد العراق الحَجّاج بن يوسف الثقفي دماء العراقيين فقتل منهم مئة وثلاثين ألف نفس صبرًا، فضلاً عمّن قتل أثناء المعارك. فقد كان الإمعان في القتل والتنكيل وسيلة الأمويين لتثبيت ملكهم العضوض. ولا تجد في التاريخ وصية تمثل نموذجًا صارخًا لعقلية الاستبداد وسياسة سوق العباد بالسيف مثلما تجد في وصية عبد الملك بن مروان إلى ابنه الوليد، التي قال فيها: إذا أنا متّ اخرج إلى الناس والبس لهم جلد نمر واقعد على المنبر وادع الناس إلى بيعتك، فمن مال بوجهه عنك كذا، فقل بالسيف كذا، وتنكر للصديق والقريب واسمح للبعيد . ولم ينسي عبد الملك أن يوصيه بكبير جلاوزة بني أمية الحَجّاج الثقفي خيرًا، فيقول له في ختام وصيته : فإنه هو الذي وطَّأ لكم المنابر وكفاكم تقحم تلك الجرائم .. والغريب حال بعض المفتونين المغترّين بالطاغية القاسي الحَجّاج الثقفي ومَن يرون فيه أنه فارس مغوار، وهو في حقيقته أكثر من سوَّد صحيفة الأُمويين بأفعاله التي قدمها قربانًا لتثبيت دعائم دولة الظلم والإستبداد . ويكفي ما أورده المسعودي في تاريخه أن هذا الطاغية قد توفي وفي محبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة! وكان حبسه لا يكنّهم من برد ولا حرّ، ويُسقَون الماء مشوبًا بالرماد، وكان قد تولّى العراق وخراجها مئة ألف ألف (مئة مليون) درهم ، فلم يزل بعنته وسوء سياسته حتّى صار خراجها خمسة وعشرين ألف ألف درهم (25 مليونًا)، أي ربع ما كان من قبل. وكان من أعظم جرائم هذا الجلاد في آخر أيامه قتل الرجل الصالح والفقيه التابعي الورع سعيد بن جبير بعد أن القي القبض علي وادخل عليه فبادره : لما دخل سعيد بن جبير على الحجاج قال له : ما اسمك . قال : سعيد بن جبير . قال الحجاج: بل شقي بن كسير . قال سعيد بن جبير: أبي كان أعلم باسمي منك ، والله أعلم بي إذ خلقني . قال الحجاج: لقد شقيت وشقي أبوك . قال سعيد: الغيب إنما يعلمه غيرك . قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى . قال سعيد بن جبير: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك . قال الحجاج:فما قولك في الخلفاء . قال سعيد بن جبير: لست عليهم بوكيل . قال الحجاج: فاختر أي قتلة تريد أن أقتلك . قال سعيد بن جبير: بل اختر يا شقي لنفسك، فواللّه ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها ، ثم قال سعيد : إنني أعوذ منك بما عاذت مريم بنت عمران بالرحمن إن كنت تقيا . قال الحجاج : لأقتلنك . فأمر به الحجاج، فأخرج ليقتل، فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده، وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك . فلما ذهب به للقتل قال العبد الصالح : دعوني أصلَ ركعتين . قال الحجاج : وجهوا به القبلة واقتلوه. فلما فعلوا به ذلك قال سعيد : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين قال الحجاج : حولوا وجهه عن القبلة . فحولوه وجهوه . فلما وجه قال سعيد بن جبير : فأينما تولوا فثم وجه الله فلما كبَّ لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله ثم قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي. قال رجل من حرس الحجاج إن سعيد لما سقط رأسه إلى الأرض قال لا إله إلا الله ثلاث مرات قال مرتين كلاما بينا وقال الثالثة بلسان منكسر. هذا نموذج من وحشية هذا الجلاد في حق رجل من خيرة العباد ، ولم يعش بعد سعيد إلا خمسة عشر يوما ، حيث مرض وكان يستيقظ من نومه فزعا ويقول مالي وسعيد بن جبير كلما غفوت وجدته يأخذ بحلقي . وأرسل يشكو للحسن البصري مرضه ، فرد الحسن : نهيتك عن قتل الصالحين فلججت ، فقال له يا حسن لا أسألك أن تدعو الله ليفرج عنى ، لكن أسألك أن تدعوه أن يعجل قبض روحي .. وعندما مات الطاغية سجد الحسن البصري شكراً ، وقال : اللهم انك قد أمته فأمت سنته .. إلا أن التاريخ يقطع أن دعوة الحسن لم تستجب فما زال في كل زمان حجاج وجلاد .. وقد أحصي عدد من قتلهم الحجاج بمائة وعشرون ألفا عدا الذين قتلهم في المعارك ، طوال حكمه للعراق لمدة 20 عاما وهذا يعنى أن عدد الذين كان يقتلهم صبرا في حدود 16 شخصا يوميا .. فبئس المرد المخزي لجلاد الدولة الأموية يوم العرض .