مرت علاقة الفقهاء ببني أمية بثلاث مراحل بدأت باعتراف الفقهاء بشرعية المملكة الأموية، وذلك تحت ما سمي بسد الفتن، وفي المرحلة الثانية شارك العلماء في مناصب السلطة المختلفة، وفي الثالثة ضج العلماء من خطايا بني أمية، ولما توفرت أسباب القوة كانت لهم ثورة عارمة، سُميت بثورة الفقهاء. في المرحلة الأولى بايع كبار الفقهاء سواء من الصحابة أو التابعين في الحجاز والعراق والشام الأمويين، وأجمعوا على رفض كل مظاهر المعارضة المسلحة أو الثورة ونعتوها بالفتن، ولخص ابن عمر ذلك في قوله الذي رواه الواقدي: "لا أقاتل في فتنة، وأصلي وراء من غلب"، وكان فقهاء الشام في هذه المرحلة الأكثر حماسة ضد مخالفي بني أمية، فكانوا يناهضون كل من أشهر سيفا، ملبسين له أوصاف تعبر عن المخالفة الدينية لا السياسية، كالمخالف للجماعة، ليدخل تحت حكم حديث النبي المجيز قتل المخالف لدينه المفارق للجماعة، فيجيزون للحاكم قتله بكل أريحية، يقول الدكتور حسين عطوان في رائعته "الفقهاء والخلافة في العصر الأموي"، لقد وجدت عند بعض فقهاء الشام رغبة محمومة في الدفاع عن بني أمية، وكان الإمام الأوزاعي مثالا لذلك، حيث حرم معارضة بني أمية، بينما كان فقهاء الأمصار الأخرى يدعون للصبر على بني أمية، ويطالبون بدلا من المعارضة المسلحة، التضرع الى الله لرفع البلاء، فكان الصحابي أنس بن مالك مثلا في العراق يتبنى ذلك الموقف، يقول الإمام أحمد "شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج، فقال اصبروا فإنه لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم عز وجل، كما سمعته من نبيكم"، وحين ظهر غضب الناس، وسخطهم على بني أمية، قال لهم الحسن البصري: " إنما هم نقمة، فلا تقابل نقمة الله بالسيف، وعليكم بالصبر والسكينة والتضرع". وفي المرحلة الثانية من مراحل العلاقة بين بني أمية والفقهاء حيث التعاون الكبير، رأى الفقهاء إمكانية إقامة العدل، ورفع المعاناة عن الناس، بالعمل مع الخلفاء وولاتهم، وقد تورع بعض الفقهاء عن ذلك التعاون إما زهدا أو رفضا للسياسة الأموية، وقد تنوعت الأعمال التي قام بها الفقهاء؛ من الولاية إلى القضاء إلى الخراج، ومن الفقهاء من عمل كذلك في ديواني الرسائل والمظالم. وكان العمل الأساسي للعلماء والفقهاء هو القضاء، فقد جمع المؤرخون الكثير من أسماء الفقهاء الذين تولوا القضاء في الشام والعراق ومصر، لقد شارك الفقهاء بني أمية ادارة الدولة، لكن هذا لم يمنع بعضهم من النقد، وتوجيه اللوم إذا ما استدعى الأمر ذلك، فكان الأعمش يقول " ابن زياد مملوءا شرا ونغلا" وقد هاجم العديد من الفقهاء عبدالملك بن مروان، وسلوكه، وسياساته، واتهموه بالبدع، وتعطيل الحدود، كما هاجموا الحجاج بن يوسف والي العراق، حتى قال الإمام طاووس: عجبت ممن يسمي الحجاج مؤمنا. ومن استياء الفقهاء من بني أمية ورفضهم سلوكياتهم واستبدادهم، بدأت المرحلة الثالثة، وكان هذا الاستياء يشتد مع كل أزمة سياسية داخلية، حيث يخرج المنادون بالثورة على هذا الفساد، وظل الفقهاء بين شقي رحى، ولاة متجبرون بلغوا من الفساد والإستبداد مداه، ومواطنون يضغطون عليهم كقيادات شعبية لأخذ موقف، إلى أن أتت لحظة رآها الكثير من الفقهاء والقراء أنها مناسبة للتخلص من الظلم الأموي، وذلك حين خرج عبدالله بن الأشعث بجيشه الكبير عن طاعة الطاغية الحجاج، الذي استبد بالعراق عشرين عاما سام أهلها سوء العذاب، إذ استحل دماء الناس، بل وأخذ يتقرب بها إلى الله فكان يقول: والله لوأمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلتلي دماؤهم وأموالهم، ويقول عنه ابن كثير كان عثمانياً أموياً،يميل إليهم ميلاً عظيماً، ويرى خلافهم كفر، ويستحل بذلك الدماء ولا تأخذه في ذلك لومة لائم" وكان أسوء ما فعله الحجاج سفكه للدماء، وتفننه في إهانة الصحابة وإذلالهم، فقد أهان ابن عمر، وابن الزبير، والسيدة أسماء بنت الصديق، وعبدالله بن مسعود، وهو متوفي بلغ حدا لم يعد ممكنا السكوت معه. وكان سبب الخلاف بين الحجاج وعبد الرحمن بن الأشعث؛ أن الحجاج أهانه في رسالة فانقلب عليه ابن الأشعث وعاد بالجيش ليخلعه، وكان قائدا حسن السيرة صديقا للعلماء والفقهاء والقراء، فدخل البصرة بجيشه وخطب في الناس، ووافقه جميع من بالبصرة من فقهاء وقراء وشيوخ وشباب وبايعوه، وتشكلت كتيبة خاصة للعلماء والفقهاء والقراء، سميت "كتيبة القراء"، يقول الحافظ ابن حجر في ترجمة الحجاج: "وخرج عليه ابن الأشعث ومعه أكثر الفقهاء والقراء من أهل البصرة وغيرها". وأخذ الفقهاء يحفزون الناس على القتال ضد الظلم والطغيان، وكان شعار القراء قاتلوا عن دينكم ودنياكم، وكان أول من تكلم أبو البحتري، الذي قام يحث الناس على قتال الحجاج، فقال: "أيها الناس، قاتلوهم على دينكم، ودنياكم، فوالله، لئن ظهروا عليكم، ليفسدن عليكم دينكم، ودنياكم". استمر القتال بين ابن الأشعث والحجاح لثلاث سنين، وكانت الصولة بادئ ذي بدأ لصالح جيش ابن الأشعث, انهزم فيها الفقهاء يقول ابن حجر في التهذيب في ترجمة الحجاج: "وخرج عليه ابن الأشعث ومعه أكثر الفقهاء والقراء من أهل البصرة وغيرها, فحاربه حتى قتله, وتتبع من كان معه, فعرضهم على السيف, فمن أقر له أنه كفر بخروجه عليه أطلقه, ومن امتنع قتله صبراً". وقد قتل في هذه الثورة بعضا من أهم الفقهاء والعباد في التاريخ الإسلامي، كأبو البختري العابد، والفقيهان عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، الذي كان يلقب بسيد التابعين، فقد ذبحه الحجاج، وما أن خرجت روحه حتى أصيب الحجاج بداء في بطنه، يقال له الزمهرير، فصاح : خلوا سبيل سعيد، فخرج الناس فأصابوه قتيلا فأخبروا الحجاج فنادى دثروني فما انتفع بشيء، قال ما أرى الدثار ينفعني شيئا علي بالنار، فأتوه بالكوانين فجعلوا النار حوله من كل ناحية، حتى احترقت ثيابه، وهوفي ذلك يصيح من شدة البرد فتجرد وأقبل يصطلي حتى تفطرجسده، ولم ينفعه شيئا، فلماعظم البلاءعليه، قال ائتوني بالحسن البصري فأتوه به فصاح الحجاج يا أبا سعيد أدركني مالي ولسعيد، فقال له الحسن لوتركت سعيدا لتركك الله أما نهيتك يا حجاج أن لا تتعرض لأحد من أولياء الله، ومات الحجاج بعد ذلك بأيام قليلة، وانتهت بعد هذه المقتلة العظيمة للفقهاء والقراء أية افكار للثورة، وعاد الفقه السياسي للمرحلة الأولى حيث النهي عن الثورة ضد الطغاة خشية الفتن.