سعيد بن جبير عالم من التابعين، سكن الكوفة ووهب حياته للدين..لم يَخْشْ إلا الله، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية. وُلِدَ سعيد بن جبير بالكوفة، في زمن خلافة الإمام على بن أبي طالب، رضي الله عنه، ونشأ محبًّا للعلم، مقبلاً عليه، فقرأ القرآن على ابن عباس، وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث، روى الحديث عن أكثر من عشرة من الصحابة، وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه. وكان سعيد بن جبير كثير العبادة لله، فكان يحج مرة ويعتمر مرة في كل سنة، ويقيم الليل، ويكثر من الصيام، وربما ختم قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام. وكان كثير العلم حتى قيل عنه:(ليس على وجه الأرض من هو مستغن عن علم ابن جبير)، وهب سعيد حياته للإسلام، ولم يَخْشْ إلا الله، يفيد الناس بعلمه النافع، ويفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم، فقد كان إمامًا عظيمًا من أئمة الفقه في عصر الدولة الأموية، حتى شهد له عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بالسبق في الفقه والعلم، فكان إذا أتاه أهل مكة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء يقصد سعيد بن جبير. كان يملك لسانًا صادقًا وقلبًا حافظًا، لا يهاب الطغاة، ولا يسكت عن قول الحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. قتله الحجاج بن يوسف الثقفي بسبب خروجه مع عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته على بني أمية، فألقى القبض عليه بعد أن لفق له تهمًا كاذبة، وعقد العزم على التخلص منه، لم يستطع الحجاج أن يسكت لسانه عن قول الحق بالتهديد أو التخويف، فقد كان سعيد بن جبير مؤمنًا قوي الإيمان، يعلم أن الموت والحياة والرزق كلها بيد الله. اتبع الحجاج مع سعيد بن جبير طريقًا آخر، لعله يزحزحه عن الحق، أغراه بالمال والدنيا، وضع أموالا كثيرة بين يديه، فما كان من هذا الإمام الجليل إلا أن أعطى الحجاج درسًا قاسيًا، فقال: وهذه قصة شهادة سعيد بن جبير (رضوان الله عليه) لقد روت كتب السير - شيعة وسنة - هذه الجريمة البشعة، وقد ذكرها صاحب تحفة الأحوذي في أول شرحه على الترمذي في المقدمة أمر الحجاج حراسه بإحضار سعيد بن جبير. وصل الجنود إلى بيت سعيد، فطرقوا بابه بقوة، فسمع سعيد ذلك الطرق المخيف، ففتح الباب، فلما رأى وجوههم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ماذا تريدون؟ قالوا : الحجاج يريدك الآن. قال: انتظروا قليلاً، فذهب، واغتسل، وتطيب، وتحنط، ولبس أكفانه وقال: (اللهم يا ذا الركن الذي لا يضام، والعزة التي لا ترام، اكفني شرّه) فأخذه الحرس، وفي الطريق كان يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، خسر المبطلون. ولما أن وصل إلى مجلس الحجاج قال له الحجاج: الحجاج: ما اسمك؟ سعيد: سعيد بن جبير الحجاج: بل أنت شقي بن كسير سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك الحجاج: شقيتَ أنت، وشقيتْ أمك سعيد: الغيب يعلمه غيرك الحجاج: لأبدلنَّك بالدنيا نارًا تلظى سعيد: لو علمتُ أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا فقال الحجاج: فما ترى في أبي بكر، وعمر في الجنة هما أم في النّار؟ يريد أن يقول سعيد شيئاً يقتله به فقال سعيد: إذا دخلت الجنة ورأيت أهلها فسوف أعلم من هم أهلها، وان وردت النّار ورأيت أهلها فسوف أعرفهم. فقال الحجاج: ما ترى في الخلفاء؟ قال سعيد: لستُ موكلا بهم الحجاج: فأيهم تحبه أكثر من غيره سعيد: من كان أرضاهم لله الحجاج: فأيهم أرضاهم لله سعيد: الله العالم بالخفايا والأسرار يعلم ذلك الحجاج: لم لا تضحك؟ سعيد: كيف يضحك من خلق من تراب وقد تحرقه النّار. الحجاج: فلماذا نضحك نحن؟ سعيد: قلوب النّاس ليست سواء فأمر الحجاج ليؤتى بالمجوهرات وتوضع أمام سعيد فقال سعيد: إن ادخرت هذه لتنجو بها من عذاب القيامة فلا بأس عليك، وإلا فاعلم إنّها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، فلا خير في ادخار الثروة إلاّ ما كان زكيّا خالصاً وقرأ: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء:88-89]. فأمر الحجاج ليؤتى بآلات اللهو والطرب فبكى سعيد الحجاج: ويلك يا سعيد! سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار. قال الحجاج: كيف تريد أن تقُتَل؟ قال سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلكَ الله مثلها يوم القيامة قال الحجاج: أترغب أن أعفو عنك قال سعيد: إن كان هناك عفو فهو من عند الله ولن أطلب صفحاً منك أبداً الحجاج: خذوه فاقتلوه فلما خرجوا ليقتلوه، بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف، فنظر إليه سعيد وقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وبكي أيضًا صديق له، فقال له سعيد: ما يبكيك؟ كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد:22] ثم ضحك سعيد، فتعجب الناس وأخبروا الحجاج، فأمر بردِّه، فسأله الحجاج: ما أضحكك؟ سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك. فأمر الحجاج ليمد بساط القتل فقال سعيد: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذي فَطَرَ السَّمواتِ وَالأرْضَ حَنيفاً وَما أنا مِنَ الْمُشْرِكينَ فقال الحجاج: حوّلوا وجهه عن القبلة قال سعيد: فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ فقال الحجاج: اجعلوا وجهه إلى الأرض قال سعيد: مِنْها خَلَقْناكُمُ وَفيها نُعِيدكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تارَةً أخْرى فقال الحجاج: افصلوا رأسه قال سعيد: أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ وَاَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ثم دعا فقال: اللهم لا تسلّطهُ على أحد من بعدي.ولم تمض سوى لحظات قليلة حتى كان دم سعيد بن جبير الطاهر يجري بأمر من الحجّاج. وقتل سعيد بن جبير، واستجاب الله دعاءه، فثارت ثائرة بثرة في جسم الحجاج، فأخذ يخور كما يخور الثور الهائج ، شهراً كاملاً، لا يذوق طعاماً ولا شراباً، ولا يهنأ بنوم، وكان يقول: والله ما نمت ليلة إلا ورأيت كأني أسبح في أنهار من الدم، وأخذ يقول : مالي ولسعيد ، مالي ولسعيد، إلى أن مات ....! قتل سعيد شهيدًا في 11 رمضان 95 ه الموافق 714م، وله من العمر تسع وخمسون سنة، رحمه الله.