مشاهد لبقايا حياة من تحت أنقاض غزة محيط - رهام محمود
"عجبي لأم صابرة صنعت من الرصاص خلخال شايلة على صدرها طفلة بريئة بتحلم بحرية الأوطان صنعت لزوجها من رصاص الهدم مسطرين وميزان حاملة على رأسها جرة... جرار... أوطان" هكذا اختار الفنان طه يوسف طه أن يكتب في مطوية دعوة معرضه الجديد "التجهيز في الفراغ" الذي أقامه في قاعة الفنون التشكيلية بنقابة الفنانين التشكيليين بالأوبرا تحت عنوان "طين وجرار تحت الرصاص"، حيث أقام هذا المعرض احتجاجا ورفضا لما يحدث بالأراضي الفلسطينية من انتهاكات إسرائيلية . ويعد هذا المعرض امتدادا لمعرض أقامه الفنان سابقا منذ خمسة سنوات في عام 2004 حينما كان يعمل في غزة، على الأراضي المحتلة وسط القصف والقتل والعنف الإسرائيلي، حيث يرى الفنان أن أساليبهم الوحشية تظل واحدة ولم تتغير على مدار السنوات الطويلة بانتهاك حقوق الإنسان. كما أضاف الفنان في مطوية المعرض "ولدت فكرة هذا المعرض على أرض فلسطين الساخنة "قطاع غزة" وأظنها لم تكتمل هناك، وما تم إنجازه هو ما أمكن في ظل ظروف متشابكة ومتداخلة، لعل من أقساها أن معظم الأعمال تمت تحت القصف من البر والبحر والجو، وصور غير إنسانية مؤلمة وقاسية ومتلاحقة، كل ذلك وغيره كالحصار الخانق زادني إصرارا لإطلاق صرخة إنسانية من خلال هذه الأعمال إلى الإنسان الإنسان في كل مكان". جاء عمل الفنان في عرض يشبه "سجادة" أرضية، تبلغ مساحتها 25 مترا × 10 متر، يصحبها عرض فيديو لفيلم وثائقي متداخل مع الأشكال المعروضة لصور حية للأحداث التي تحدث في غزة بأصوات الانفجارات وأصوات الطائرات والدبابات، ممتزجة بمقاطع من أغنية وموسيقى "زهرة المدائن" للفنانة فيروز، وأغنية وموسيقى "أخي جاوز الظالمون المدى" للفنان محمد عبد الوهاب.
تناول الفنان عناصره في تكوين واحد مع فن الخزف في شكل متآلف، كعنصر تشكيلي في الخزف من الناحية الرمزية، أما عن اللون فقد حصل عليه الفنان من عنصر النحاس الذي يصنع منه الرصاص – الذي أحضره الفنان معه من غزه أثناء القصف في عام 2004 - ؛ لأن النحاس يتفاعل كيميائيا مع فن الخزف ويتأكسد في الفرن فيظهر اللون الأخضر وأكاسيده، والذي تحول بعد ذلك إلى لون دم الغزال ودم لحم الإنسان بعد عملية الاختزال داخل فرن الخزف . ومن هنا استطاع الفنان أن يحصل على اللون الجميل في الفن من أداه الدمار "الرصاص". استخدم الفنان في تشكيل هذا العمل الرصاص الفارغ وبقايا الصواريخ والألغام ودانات المدافع التي كان يجمعها ويساعد في جمعها بعض طلابه بعد الاجتياحات والمداهمات، بالإضافة إلى بقايا الحياة من تحت الأنقاض كملابس الأطفال، ألعابهم، كتبهم، أقلامهم، رسومهم، درجاتهم المحطمة، وبقايا الخبز المحروق والدقيق والحبوب من أرز وعدس وفول، بجانب ما شكله الفنان من جرار ورموز للمخيمات، وبقايا بشرية من أيادي ورؤوس آدمية وتماثيل لنساء يخترقها الرصاص، وأشكال لمفاتيح كرمز لعودة من شردوا، وكذلك ابريق القهوة العربي، موقد النار البدائي، لمبة الكيروسين، الشمعة التي توحي بما تتسبب فيه آله الدمار من هدم لكل أشكال الحضارة الإنسانية لتعود إلى بدائيتها . استخدم الفنان كل هذه العناصر في تكوين تشكيلي تختلط فيه تلك العناصر بالرمال والطين المحروق وكسر الفخار والأحجار، كما استخدمها من الجانب التشكيلي كناحية جمالية، ومن ضمن هذه العناصر أيضا نرى في نهاية العمل حذاء يخرج من العمل كرمز للمحتل بأن الأرض ستلفظه مهما كان جبروته، ومهما طال احتلاله للأرض التي لن تتقبله. وقد حمل العمل أبعادا رمزية وتعبيرية وتشكيلية ودراماتيكية ليخرج بكتله ومسطحاته وألوانه وملامسه وفراغاته البينية؛ فيعطي صورة بصرية وحسية وسمعية مجسمة، كتعبير صادق عن حجم الأهوال والمآسي التي ترتكب في حق الإنسانية بأطفالها ونسائها وشيوخها وزيتونها وأزهارها، وعمارتها ومدينتها من إرهاب دولة لها جذور ضاربة في عمق التاريخ، حيث ارتكب "هيرود" ملك اليهود مذبحته المروعة ضد أكثر من 140 ألف رضيع على أكتاف أمهاتهم من مدينة بيت لحم في الفترة السابقة لميلاد السيد المسيح، خوفا منه حتى لا يفقد عرشه، وقد صور هذه المجزرة البشرية فنانون كثيرون في القرنين الخامس والسادس عشر مستوحاه من العصر القديم "وفقا لما أشار إليه الفنان". كما أضاف الفنان: وكان لاختياري مسمى هذا المعرض بعدا فلسفيا خاصا بما يحمل الطين والجرة من دلالات رمزية ومادية، فقد كانت الجرة على مر العصور من أقدم الأشكال الفنية التي صاغها الإنسان الأول بعد الكهوف، فحمل فيها وخزن وحفظ مصادر طاقة الحياة من مياه وحبوب وزيوت، وهي رمز للوطن والأم والأخت والحبيبة والخصوبة والقداسة؛ لأنها صنعت من مادة مقدسة وهي الطين "مادة الخلق" التي أنشأنا منها "الله" بقدرته ونفخ فيها من روحه، وفي هذه المادة وتحتها أوجد "الله" لنا الرزق أيضا بما تحمل من عناصر معدنية استفاد منها الإنسان في بناء حضارته، ومن معادنها أيضا صنعت أدوات الدمار وقتل الحياة. كل الحياة. طه يوسف يواصل: علينا أن نمسك بالتاريخ حتى لا ينسى من يتعهد النسيان أو تتبلد الذاكرة بالصمت المستكين، وهذا هو دور الفن ورؤاه فيما حدث، مؤرخا وفاضحا للقبح، فمثلما للفن دوره في تجميل الحياة، فهو أيضا وسيلة لكشف بشاعتها، فعن طريق الفن تخرج الأحداث القديمة بصيغ فنية مختلفة ووسائط تعبيرية متعددة، كالسينما، المسرح، الفيديو، التصوير، النحت، الفوتوغرافيا؛ لتفضح قتله كل زمان ومكان، بواسطة ضمير الفنان في مختلف العصور؛ ولتصل رسالته إلى الضمير الإنساني الحي الذي لا يعرف حدودا للزمان أو المكان، لاسيما وأن المذابح الإنسانية على مدى التاريخ تعيد نفسها بنفس الفكر الإرهابي مع تغير الوسائل وازدياد بشاعتها . العمل المعروض الآن أصبح جزءا من الذاكرة البصرية والتاريخية؛ ليظل الفن بمواقفه منتصرا على فناء الحياة، وخاصة أنه لم يعد لأي من الضحايا الأبرياء في هذه المذبحة وجود بعد انتهائها؛ وليقول بوضوح أن الجرة لن تنكسر، وإن انكسرت برصاص العدو فإنها لن تموت، فزيتها المتدفق من بطنها على طين الأرض سيمتد إلى الجذور ليرويها كما كانت منذ آلاف السنين، لتقوم الجرة من جديد، وتنبت الزهرة من جديد، وتنبت الشمس من جديد. يهدي الفنان هذا المعرض للفلسطينيين كتحية إعزاز لكل شهيد وشهيدة من الأطفال والنساء والشيوخ، وصرخته إلى الإنسان الإنسان في العالم الحر بضرورة حساب وعقاب كل مجرمي الحروب وتجار الدماء ومرتكبي المجازر البشرية باسم الشيطان الذي يغيرهم ليحترقوا في النهاية. يقول الدكتور عبد الرحمن المزين الأمين العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين في معرض الفنان السابق الذي كان على أرض غزة: أعمال الفنان طه يوسف مميزة مضمونا وشكلا ولونا، المضمون: متمثل في عنوان الأعمال "الجرة والرصاص" فهو مشتق من معايشته للأحداث يوميا في غزة، فهو موجود بيننا منذ سبع سنوات، وكفنان لابد أن يبدع أعمالا تشكيلية، ولابد أن يكون موضوعه فلسطين، خاصة وقد دخل إلى شقته سبع رصاصات وشظايا قذائف، وعلى بعد عشرات الأمتار من مسكنة كانت غارات الطائرات على القيادات الفلسطينية، وفد اغتالت عددا منهم، فكان موضوعه عن الصمود البطولي الفلسطيني، وبالتالي كان مضمون الأعمال تحت أسم شعار الجرة والرصاص، فالسامع للعنوان يعتقد بأن الرصاص سيكسر الجرة، لكن عندما ننظر للأعمال نجد أن الرصاص أحترق بل وتكسر على جدران الجرة، فنجد الجرة وقد علت القذيفة وألصقتها بالأرض، وارتفعت الجرة شامخة، فرغم وجود الرصاص على جدرانها نجد الجرة قد اعتلت المقذوف بشكل بيضة لم يحدث فيها أي خدش، وهي رمز الاستمرار وأن المولود هو الاستقلال سيطرد الاحتلال. يتابع: نجد الجرة وفي بطنها وجه طفل، الرصاص في فمه وأنفه وحول عينيه ورأسه ووجهه، ولكنه لم يموت ولم يستشهد صامدا، في عينيه صور الصمود بالجرة ضد القذف.. صور الحرية ضد الاحتلال.. صور التصدي ضد العدوان.. صور الحق ضد الظلمة.. صور الحياة ضد موت المجنزرات والطائرات والصواريخ.. صور أيدي وأعضاء بشرية وألعاب أطفال وكتب وطلاب وطالبات وحجارة مبان مهدمة.. ضد أسلحة الدمار.. هذا هو ما حققه الفنان طه يوسف من مضمون وشكل في أعماله التشكيلية، إنها أعمال تصرخ وتنادي بالحرية والاستقلال ضد البطش والعدوان والاحتلال، فكل هذه المعاني الإنسانية أوجدها وحققها الفنان