صناعة الآواني الفخارية أو "الفواخير" كما يطلق عليها أهل الصنعة في منشأها الأساسي بقرية جريس بدهاليز محافظة المنوفية، هي صناعة قديمة قدم الانسان والتاريخ وعلى الرغم من وجود مراكز ومعاقل أخرى لفن صناعة الفخار في مصر القديمة وسمنود بمحافظة الغربية وقرى محافظة قنا والزقازيق بالشرقية وأسوان. إلا أن "جريس" بالمنوفية تعد منشأ تلك الصناعة ونواة لإخراج فنانيها، لذلك تنقل لك عزيزي القارئ شبكة الإعلام العربية "محيط" نسمات من الماضي وعبق التاريخ بروح المستقبل، وعلى الرغم من كون الصناعة حية وموجودة إلا أنها بدأت تتراجع ويقل الإقبال من شباب القرية ورجالها على الاشتغال بها حتى النساء، وهذا الفن له جذوره الممتدة المستمدة من عبق التاريخ وتكمن جاذبيته وإبهاره الذي يجبرك على التحديق فيما يجري أمامك في لحظات وبوسائل بدائية وبلمسات ساحرة تتشكل من طين الأرض والصلصال لتنتج أشكال فنية مبهرة تغزو ربوع العالم كله، وليس مصر وحدها: الحاج فوزي غنيم: رغم وجود معارض حالية إلا ان الأجواء السياسية ساعدت على بوار الصناعة "لا زوار ولا سياحة" عادل محمود: الفخار صنعة بدائية ولكنها تمر بالكثير من المراحل.. والشباب بات يهرب من العمل بالطين والسعي للكسب السريع عمرو أحمد: التشجيع والتقدير يجعلك تبدع وتتقدم اما البوار يجعل أفكارك تصدأ وعزيمتك تفتر المشتغلون بتلك الصناعة أرجعو خفوت نجم الصناعة وقلة تصديرها للخارج، إلا تراجع الطلب على منتجات الفخار مع ازدهار صناعات ومنتجات البلاستيك والخزف والألومنيوم وانتشار المبردات وغيرها من منتجات الصناعة الحديثة، وتراجعت معها صناعات يدوية وتراثية أخرى كصناعة الخوص والصدف المطعم والسجاد اليدوي. صناعة الفواخير ما أن تطأ قدماك أرض تلك القرية حتى يذهلك ما تشاهده من تناقض غريب في الطرازات المعمارية الحديثة التي زحفت فوق أنقاض بيوت قديمة متهالكة من طابق واحد وذات حوائط متهدلة ومباني متهتكة من الطين والطوب اللبن كدليل على بدء انقراض الصناعة التاريخية، إلا أن منطقة الفواخير بالقرية مازالت موجودة بمبانيها العتيقة والقديمة وأمام كل منزل تجد أحد الافران يصل ارتفاعه لطابقين ولا يزيد عرضه على الأمتار الأربعة. التقينا بأحد أكبر الصناع في القرية "عادل محمود"، شرح لنا كيف يتم صنع الفخار عن طريق نخل تراب التربة الطينية ثم تعتيقه وإعادة تنقيته من الشوائب والحصوات الطينية ثم عجنه بالماء وتشكيله في اليوم الثاني ويتم هرسه وتقليبه في مجهود شاق حتى يصبح لينا كعجينة الخبز في اليوم الثالث في مرحلة تسمى "الدوس". اما تشكيل المنتجات فيتم بواسطة أله بدائية تسمي "الدولاب" يجلس الصانع على أريكة ويركل بقدمة قرصا دائريا فيما تتولي يديه تشكيل العجينة المثبتة على قرص دائري أخر في متناول يديه، بعد التشكيل يخرج الفخار إلى الشمس ليجف ليومين وعند تماسكه يتم إعادة ترميمه عند الشك بوجود أي عيوب صناعية به أو دخول ذرات الرمل أليه ليتم إدخاله إلى فرن بدائي من طابقين يتسع ل 1200 قطعة مختلفة حسب حجم المنتجات وحجم الفرن ذاته، وله فتحة كبيرة في أعلاه يدخل منها المنتج الفخاري وهو عجينة ويخرج منها بعد أن يوقد عليه ليومين كاملين في درجة حرارة بسيطة قبل أن يوقد عليه بشدة لاربع ساعات كاملة. ويؤكد عادل محمود أنه رغم كون الصناعة بدائية وتبدو لمن لا يعمل بها انها بسيطة، إلا أنها تستغرق مراحل كثيرة فالقلة الواحدة تستغرق أربع أيام بأربع مراحل لإنتاجه، وقادوس الحمام والطواجن تتم على مرحلتين وأواني الزرع، وصواريخ لاصطياد الفئران وزينة البنايات الحديثة. أما منتجات الخزف الفخاري فيستخدم فيها الصلصال في تشكيلها كصناعة الأباجورات والطفايات والشمعدان والتماثيل النحتية وديكورات القصور وواجهات البنايات الحديثة واكواب الشراب الفخارية وأحجار الشيشة، فهي الأكثر طلبا وشيوعا لارتباطها بالتصدير للخارج وإقبال السياح على شرائها وتدخل مسابقات دولية ومحلية كتراث فني شعبي أصيل لم تمتد إليه يد الألة الحديثة. وطينة الصلصال ملكفة ويؤتي بها من محافظة أسوان ويتم طحنها بواسطة فرامات خاصة بمصر العتيقة او مطارق حديدية ويتم خلطها بالماء وإعادة تدويرها وعجنها لتدخل ضمن منظومة الصناعة المبهرة. أزمة التاريخ والحاضرتعيش صناعة الفواخير أزمة بين الحاضر والمدنية الحديثة وبين الماضي العتيق بعبقه وتراثه، وتعد تلك الصناعة من خير الشواهد على الصراع بين الماضي والحديث... تحدثنا إلى الشيخ فوزي غنيم، أحد أقدم الصناع المشتغلين بالفخار منذ قديم الأزل، والذي أكد لنا أن الفخار صناعة يرجع تاريخها في القرية لاكثر من 200 عام، وربما أكثر من ذلك، وان الصناعة تأثرت بعدم الاستهلاك وقلة الطلب على منتجاتها وقلة عدد الصناع وسعي الصانع إلى ادراك سبل المال دون الاهتمام بالفن التراثي الذي أسسه الاجداد في القرية وأبدعوا في تشكيله، وتفضيل الجمهور لمنتجات البلاستيك والصيني والألومنيوم والزجاج على منتجات الفواخير.فالمشتري يفضل أن يقتني أباريق أو شمعدانات او براريد أو طفايات أو تحف من الزجاج أو البلور أو أي منتج أخر بعيدا عن الفخاريات التي أصبحت تنتج بحسب الطلب عليها. والاهتمام بالصناعة تراجع من صناعها والقائمين عليها، وان الدولة أولت جهودها لرعايتها وتصدير منتجاتها، خاصة بعد زيارة الدكتورة أمال عثمان والدكتور يوسف والي وزير الزراعة واستصلاح الأراضي في عام 1994م، ومنذ ذلك الوقت أصبح لتلك الصناعة مكانا في المعارض المحلية والدولية خاصة مهرجان الأقصر للفنون الشعبية والتراثية ومهرجانات التسوق والمعارض التي تقام كل عام بالقاهرة وخارجها. حتى أن وزارة الثقافة بالتعاون مع جامعة القاهرة ووزارة التجارة الخارجية نظمت لنا صناع الفخار على مستوى الجمهورية المصرية في منطقة جامع عمرو بمصر القديمة عام 2005م محاضرات شرح لنا فيها أساتذة كليات الفنون الجميلة والتشكيلية ونحاتين محترفين، كيف نستطيع الرسم والنحت والتشكيل بالكتابة على الفخاريات، وادركت وقتها كم القصور في حق أنفسنا وأن تلك الصناعة وفنها يحتاج غلى التطبيق العلمي إضافة إلى رصيدنا الفطري وخبرات السنين في تشكيل الفخار والإبداع فيه. ويري الشيخ فوزي غنيم أن الأزمة في تراجع الاهتمام بالصناعة وقلة رواجها يكمن في ازمة التسويق أيضا فلا أسواق حية لتلك المنتجات التاريخية والقيمة، ورغم وجود معارض ومهرجانات التسوق إلا أن الاجواء السياسية المشتعلة سبب البوار السياحي وقلة الاقبال الجماهيري على الشراء والتسوق وارتياد المعارض، لذلك يلجأ الكثير من الصناع إلى تخزين منتجاتهم إلى وقت طلبها في مواسم الصيف مع ازدهار حركة السياحة وطلبات الفنادق والشركات والمؤسسات في الخارج، خاصة "الصاروخ" وهو إناء فخاري مستدير مفتوح من الجانبين يوضع على الارض ويملئ نصفه بالطعام المسموم والمعالج بالكيماويات لاصطياد الحشرات والفئران، وهو افضل من المواسير البلاستيكية في هذا الغرض لكونه يحمل شكلا جماليا بديعا ومستوحى من الطبيعة، فضلا عن أن تلك الصناعة أخرجت للبشرية اول موقد طبيعي من الفخار وهو "الكانون" المصنوه بكامله من الفخار. الفنان يتفوق على ذاته رغم أن الصناعة تواجه حربا من صناعات أخرى تنافسها وتقضي عليها في صراع محموم بين الماضي والحاضر، إلا أن هناك فنانين شبان لهم باع وذاع صيتهم في تلك القرية وحصدوا جوائز من مهرجانات كمهرجان الاقصر للفنون الشعبية والتراث.. عمرو أحمد شاب في العشرين من عمره أجاد وتفوق في صناعة التحف والانتيكات الفخارية والتماثيل والنحت لكل ما تقع عليه عيناه من إنسان وحيوان وطيور وجماد.. ويرجع "عمرو أحمد" فنون تلك الصناعة إلى نوع التربة المستخدمة في الصناعة التي تميز المميز من المقبول في منتجات الفخار، فالقلل تتأثر بالتراب الاسمر عن المخلوط بالرمل، ومنها القلل الأحمر والأبيض والسمنودي والقناوي الأبيض التي تعد غالية الثمن والتكلفة لأن طينتها تأتي من العريش،وللقلل والأواني الفخارية أسماء لدى صناعها يميزونها بها فمنها القلة المشربية وهي المرتفعة الرأس، وذات الأذن، والموريس أو المستديرة نسبة إلى أحد انواع الاسلحة الشهيرة في المسدسات، وتدهن القلل ومنتجات الفواخير عامة ب "السيبداج" وهو مادة كيميائية بيضاء تستخدم في طلاءات المنازل، وكانوا قديما يطلونها بالمطحون الأحجار البيضاء بعد تكسيرها بالهراوات الحديدية الضخمة إلا أن قلة عدد الأحجار وتراجع أعداد العاملين في الصناعة جعل من العسير والشاق تكسير الاحجار إضافة إلى عجن الطين يوميا وتصنيعه. أما منتجات كطواجن اللبن والأباريق فقد أضحت يقتصر انتاجها على منتجات التصدير والمعارض التي تراجع الاقبال على اقامتها، وحتى روادها أصبحوا قليلين في ظل الظروف السياسية للدولة، فالاهتمام بالسياسة طغى على الاهتمام بالفن والتراث والتاريخ، فضلا عن انصراف العديد من أبناء تلك الصناعة إلى الاشتغال بأعمال أخرى كالوظائف والأعمال الحرة والتجارة دون الاهتمام إلى صناعة احترفها أجدادهم وأبهروا بها العالم. ولقد نلت العديد من الجوائز أخرها من مهرجان الاقصر للفنون الشعبية والتراث، وشهادات تكريم من محافظ المنوفية الأسبق المهندس أشرف هلال، خاصة عن تماثيل الفلاح المصري وحامل القربة وسيدة الدار وشمعدان الحياة وغيرها من التحف التي أنتظر أن تلفي فرصة ترويجها عالميا. فلدي من الافكار والاشكال ما لا يتخيله بشر، أريد أن يراها العالم، لكن التشجيع والتقدير يجعلك تبدع وتتقدم اما الخفوف والبوار يجعل أفكارك تصدأ وعزيمتك تفتر.