بدايةً لا يختلف اثنان على عظمة مصر وتاريخها العريق، فوصفها سيدنا نوح بالأرض المباركة وأم البلاد، حيث ذكر أبو القاسم بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر وأخبارها: أنّ نوحاً رغب إلى الله عزّ وجلّ، وسأله أن يرزقه الإجابة في ولده وذريته، وقال: اللهمّ إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أمّ البلاد وغوث العباد التي نهرها أفضل أنهار الدنيا وأجعل فيها أفضل البركات وسخّر له ولولده الأرض وذللها لهم وقوّهم عليها. من ناحية ثانية، ورد في فضل مصر من الآيات الشريفة والأحاديث النبوية، حيث ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز في أربعة وعشرين موضعا منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلَّت عليه القرائن والتفاسير، وأما ما ورد في حقها من الأحاديث النبوية؛ فقد روي عن رسول الله أنه قال: "ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم ذمة". لكن حكام مصر الذين تعاقبوا عليها لم يكونوا بقدرة عظمتها، فاستباحوا خيراتها وقمعوا أهلها وحاولوا تدمير نسيجها حماية لعروشهم وبعد أن من الله على المصريين بثورة خلصتهم من أحد هؤلاء الحكام وجد الثوار نخبة سياسية منقسمة على نفسها اعتلت فجأة موجة الثورة من أجل تحقيق مكاسبها، نخبة تعاني مجموعة من الأمراض تمثل عائقا أمام عملية التحول الديمقراطي. أول تلك الأمراض عدم قبول الرأي الآخر: فللأسف الشديد عدد كبير من أفراد النخبة المصرية بداخلهم ثقافة السلطة المطلقة التي زرعها بداخلهم نظام مبارك على مدى العقود الماضية، فكل فرد يتسلط برأيه على الآخرين، ويحاول فرضه بطرق مختلفة، ولنا نماذج كثيرة في الثورة المصرية بدايتها كانت بين نعم ولا في التعديلات الدستورية ومرورا بمعركة الدستور أولا، ومعركة دولة مدنية أم دولة دينية، وحاليا الجدل حول تطبيق مبدأ العزل السياسي. ثانيها الاستقطاب والتخوين: يشعر الكثير بالقلق على مستقبل مصر؛ بسبب حالة الاستقطاب والتخوين المسيطرة على النخبة السياسية، فنجد عدد منهم يظهر في برامج التوك شو يعلن أن هذا التيار عميل، وهذا الشخص يتبع فلول النظام، ويرد آخر في الصحف والفضائيات معلنا نفس الاتهامات للآخر لدرجة أن المواطن أصبح يشك في كل ما يقال لأن المنطق والتحليل يقول إن كل ذلك عبارة عن تصفية حسابات قديمة، وصراعات للحصول على أكبر المكاسب مع اقتراب الانتخابات البرلمانيَّة، وهذا المرض هو المسئول الأول على عدم تحقيق الثورة إنجازاتها، ولا يقتصر هذا التخوين على فئة معينة؛ بل اتسع ليشمل حتى الشباب فخلال مشاهدتي الاسبوع الماضي لبرنامج في الميدان للصحفي عمرو الليثي وكانت الناشطة أسماء محفوظ في ضيافته وجدتها تتحدث بشكل غير لائق عن المجلس العسكري. ثالثها التلون: من الأمراض الخطيرة التي تصيب كثيرا من أفراد النخبة المصرية مرض التلون وركوب الموجة، فتجد كثيرا من منافقي النظام السابق أصبحوا فجأة من أعظم الثوار وأكثر المنتقدين للنظام السابق، ويحضرني هنا موقف استمعته مؤخرا في إذاعة القرآن الكريم في فترة غذاء الروح الصباحية كانت تستضيف أحد المشايخ يتحدث عن أهمية الصدق والإخلاص في العمل، ووجدت مشارك في البرنامج من خلال التليفون، يسأل الشيخ "لماذا دخل الانتخابات البرلمانية عام 2010 على الرغم من معرفته أنها مزورة؟!". يجب على النخبة السياسة أن تعي أن الديمقراطية التي تنشدها لن تتحقق، إلا إذا وجدت التربة الصالحة لها؛ فإذا افتقدت هذه النخبة نفسها الديمقراطية فكيف تطلبها، إن فاقد الشيء لا يعطيه ومصر أكبر من مجرد أفراد منقسمون على أنفسهم، فإما نخبة قوية وإما مبارك آخر.