مصطلح النخبة واحد من المصطلحات المرهقة في الاستعمال المصري المعاصر، فقد أرهقتها اللغة الصحافية والإعلامية المصرية، حتى صارت مرادفا لطبقة الفريسيين المرائين على عهد السيد المسيح، وطبقة المنافقين الزنادقة في حياة النبي الخاتم محمد بن عبد الله – عليهما الصلاة والسلام. تعبر النخبة في الأصل عن طلائع طبقات المجتمع التي تتمتع بالعلم والمال والخبرات المعمقة في تنوير باقي الطبقات مع القدرة على قيادة المجتمع في الأوقات العادية وإصلاحه وتقويمه – لا تهميشه وتنويمه وتعويمه - والحفاظ على تماسكه وبنيته وثقافته في أوقات الأزمات وحالات الطواريء، وتشمل العلماء والكتاب والمفكرين والقادة الدينيين وقادة الرأي وكبار الصحفيين والسياسيين والإعلاميين، وتلعب النخب الدور الرئيس في تصحيح مسار القيادة، وكلما جاءت القيادة تعبيرا صادقا عن النخبة كانت القيادة أرشد، لوجود حالة من التناغم بين العمل التنفيذي العام والفكر النخبوي الذي يسود الأمة، ولذلك وجب أن تكون االنخبة من وراء القيادة مباشرة، داعمة وملهمة لها، وإلى هذا أومأ النبي الأكرم: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهي" رواه مسلم. ولكن ماذا لو عملت القيادة على امتداد ستة عقود على محو النخبة وتهميشها واحتقارها وتجويعها وتجبينها واعتقالها وممارسة الضغظ عليها نفسيا واقتصاديا واجتماعيا - بل ومطاردتها وسرقتها وقتلها؟ عملت القيادة المصرية والعربية عموما على تعويم دور النخبة وشل حركتها وافتعال المعارك بين أذناب الغرب الفكرية ومن على شاكلتهم من حاملي دكتوراه درجة ثالثة من جامعات أوربا الشرقية والغربية وبين أبناء الأمة الذين شربوا من ينابيع ثقافتها وانطبعوا في مطابع عزتها وتربوا على أصولها الفكرية وثوابتها الحضارية – بالمناسبة أنا مقيم في الولاياتالمتحدة، ولعل أحد الأمراء العرب يقرأ هذه المقالة ويتبرع بربع مليون دولار، مشروطة بأن أعود بثلاثة دكتوراه في وقت قياسي. تعيش النخبة المصرية والعربية حالة مهلهلة ومهترئة، ومن رحم هذه النخبة تخرج قادة أركان الجيوش وقادة الأسلحة. تربى هؤلاء وأولئك مدنيا وعسكريا على عقيدة "الأنانية" التي تمجد الأنا، وتضخم الذات، وتعلى الإنجازات بالغة التفاهة، وتعظم من قيمة الرغبات، وتعلى قيمة الرصيد المصرفي والمكانة الاجتماعية، وتحتكم إلى لغة الجيب وقانون البطن في ترتيب الأحلام والمطامح الشخصة بالطبع، وتجعل منها مقاصد عليا للحياة، ومن ثم ارتبطت البزة العسكرية بمظاهر التكبر والعنجهية والغطرسة، وحتى أبناء العسكر جيشا وشرطا، اعتادوا مثلا خلال حكم المخلوع أن يصطحلوا بطاقة الوالد أو يضعوا رمز الهيئة على السيارة، ومن ثم عند اللزوم عليك أن تنتظر قول الباشا: "إنت عارف انت بتكلم مين؟" ولم يكن جل أساتذة الجامعات أصلح حالا من هؤلاء، ويكفي أن تسأل طلاب الجامعات: كم مرة يتكلم الأساتذة كل فصل دراسي عن أهمية شراء الكتاب الجامعي والعقوبة المنتظرة إذا حدث ونسخه الطلاب دون شراء النسخة الرئيسية المطروحة للبيع بثمن مبالغ فيه لم يراع واضعه أن طلاب مصر أغلبهم من أبناء الفقراء الكادحين – والأسوأ أن هذه الكتب في الغالب مسروقة من مؤلفات علماء سابقين متقدمين أو معاصرين – ولا أنسى أحد الأساتذة الذي أعد كتابا في علم القواعد الفقهية فور أن عهد القسم المختص إليه بتدريس المادة، وعندما اشتريت الكتاب كانت المفاجئة أنه سرق كتاب "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي ووضع له مقدمة، وحذف منه بعض الأمثلة وانتحل الكتاب لنفسه وادعى أنه مؤلفه بكل صفاقة، ولعل الكتاب لا يزال يباع إلى اليوم في الجامعة. هذه النتف القليلة التي يمكن للراصد أن يجمع منها عشرات بل مئات الأمثلة، تبين حال النخبة الفاسدة، التي حمت عرش الفاسد، ورتعت في حياض المستبد، وتمتعت بأموال الفقراء، وورثت أولادها مناصب الدولة، وهي اليوم تعيش أسوأ لحظاتها، فعلى الأقل لن يكون بمقدور قادة العسكر ومستشاري القضاء الذين ننتظر منهم القصاص من المخلوع وأعوانه أن يورثوا أولادهم السلطة العسكرية والقضائية بعد اليوم، وهو كابوس لا يمكن للغائب عن حلبة الصراع الطبقى في مصر أن يتخيل وقعه على أنفس مريضة بمرض الانتهازية والتسلط. ومن قلب هذا المستنقع الملبد برذائل وأوبئة النفس الأمارة بالسوء والقلوب المنكرة المستكبرة، تخرج كثير من رعاة موائد الحكام فتولوا الوزارات وسرقوا الشركات وترأسوا الصحف وتربعوا على شاشات التلفاز، حتى قال كبير كهنتهم بعد المخلوع - فض الله فاهه بعد أن أزال جاهه– "إن المصريين غير مؤهلين للديمقراطية"، كما احتل بعضهم دور الممثل المساعد في مسرحية أحزاب المعارضة. واليوم وبعد الثورة ولسوء حظ المصريين يُفرض عليهم الخيار بين بدائل عسيرة، فإما أذناب النظام وإما من يعيشون خارج العالم ويعتقدون أنه بإمكاننا طرد بني قريظة بمجرد ثبوت خيانتهم، وهم يجهلون قراءة الخريطة المعاصرة، فقد مات الأنصار وأبناء الأنصار وفني المهاجرون، وبنو قريظة يحكمون الآن أمريكا، ويزلزلون عروش حكومات أوربا، بل ويعلمون أولادهم هنا في أمريكا اللغة الصينية ليكونوا مؤهلين لاختراق المارد الصيني عما قريب.. كما أن الناتو يتربص بنا الدوائر، وأموال العم سام تدغدغ مشاعر البؤساء من قبيلة عبد الله بن أبي - زعيم المنافقين، ومنظر الدولارات يسيل له لعاب الطفيليين من أرباع المثقفين وفاقدي الهوية وفاسدي الانتماء، وكثير ما هم في أرض مصر. ومن ثم، يجب استخدام لغة أخرى للتعامل مع الوضع الراهن، نريد مصر قوية وموحدة خارج حسابات النخبة ودون اعتبار للمكاسب الضيقة التي تراود خيال الطامحين. وماذا بعد؟ مصر في أزمة، فقادة العسكر يخافون تسليم السلطة، لأنها تحميهم وهم يخشون العدالة التي لو لحقت مبارك فلعلها أن تدرك بعضهم، وحيث إنهم نتاج عقود الظلمات الفكرية فمن الطبيعي أنهم لا يدركون أن الشعوب كثيرا ما تغفر لصانعي التاريخ خطاياهم، وتنسى ماضيهم، بل وتعتز بصفحتهم المشرقة وشعب مصر – ولست أتحدث باسمه ولكني أعلمه وأحبه بل أعشقه وأعرف كيف يفكر - على استعداد أن ينسى ستين عاما من امتهان العسكر وصمت القيادات على الشيطان وغفلتهم عن صولة الباطل وتمتعهم بمنح مولانا السلطان خادم "الشيطان الأكبر وقوى الاستكبار" بلغة الإخوة الإيرانيين، شريطة أن يثبتوا للمصريين أنهم معهم في خندق واحد وأن يستردوا كرامتهم وكرامة المصريين وثروات مصر من لصوصها وثعالبها. مصر حقا في أزمة، لأن من اعتادوا فتات موائد الاستبداد يزينون للعسكر لعبة السلطة، ويخوّنون الأحزاب، ويعيدون إنتاج بانوراما الإرهابي ويلصقونها بالإسلاميين، ويملئون القنوات هلعا من الدين وأهله، ويهللون للمشير كما هللوا من قبله للأمير، والغريب أنهم يعيشون أعمارهم عبيدا لمن يشتري وخدما لمن يدفع، كتبت عليهم الذلة والبؤس، يبيعون أقلامهم ويخونون أهلهم ويطعنون أمتهم.. يتلونون مع كل فصل، ثم يهلكون غرباء قد بغضهم الله إلى الناس وإلى من خدموهم فيذهبون غير مأسوف عليهم، أخزاهم الله أحياء وأمواتا... مصر في أزمة؛ لأن فصيلا كبير من الإسلاميين لا يدرك القراءة الجيدة للحظة الحالية، ولا يعرف لغة السياسة، ومن هنا كان الهجوم على أردوغان "مروّض الأفاعي وملاعب الذئاب" عند حديثه عن علمانية الدولة. لست أشك لحظة في أردوغان القائد كما لا أبريء أردوغان رئيس الوزراء المنتخب المسئول عن البيت التركي والأمة العثمانية كذلك لا أزايد على إخلاص الإسلاميين، وقد رأيت منهم وعرفت فيهم الإخلاص والتفاني والحب والوطنية، ولكنني أذكرهم بأن الحرب خدعة، وقد شهد "عمار بن ياسر" شهادة الكفر وهو مؤمن مطمئن قلبه بالإيمان، وقاد محمد بن مسلمة عملية استخباراتية ونفذ مهمة تصفية كعب بن الأشرف بعد أن وقع في رسول الله – عليه السلام - بإذنه، وهو بلغة اليوم اغتيال سياسي، ووضع نعيم بن مسعود استراتيجية لتفريق اليهود والأحزاب وما كان ليتم ذلك له إلا بالمداراة والخديعة و"الحرب خدعة" (أحمد والشيخان)... وما كنت لأذكّر قومي وأحبتي بهذه الأمثلة لولا الضرورة - لعلمي بأن المتربصين في انتظار شيء من ذلك، ولكنها السياسة يا أحفاد الساسة، وقد رخص النبي في الكذب على العدو (أحمد وأبو داود). وقد أن للإسلاميين أن يتخلوا عن استعداء الغرب المتربص، وعليهم أن يقابلوا المكر الصهيوني بالعمل الصموت والفكر المتأنى والتخطيط البعيد من خلال تغيير قواعد اللعبة ومنصات الانطلاق نحو المستقبل وليست الحرب خطبا منبرية ولا دساتير حزبية. أحبتي .. قليل من الكلام .. كثير من العمل، فلن يتحرر الأقصى بمباديء الأحزاب التي سيقرأها أناس يتمتعون في الغالب بأمية فكرية نفاذة، ولن تتغير مصر بفرض الشريعة على قوم لا يعلمون ما الشريعة ولا تدرك عقولهم روعة الشريعة ولا تشعر أرواحهم بعظمة الشريعة، وعلينا تغيير الشعب أولا ليصبح مسلما حقا قبل الحديث عن تحكيم الشريعة، إن التغيير أعمق بكثير من أن يكون مبدءا حزبيا أو معركة كلامية أو رمزا ظاهريا مع احترامي لكل ذلك وإدراكي لأهميته. من فضلكم ... أعيدوا ترتيب الأولويات قبل فوات الأوان. محمد فوزي عبد الحي كاتب مصري مقيم بالولاياتالمتحدة الأمريكية