جاءت استقالة رامي الحمدالله رئيس الوزراء الفلسطيني أمس الخميس من منصبه بعد أسبوعين فقط من أدائه القسم القانونية خلفاً لرئيس الوزراء السابق سلام فياض، لتثير الجدل من جديد في الأوساط السياسية. واستقالة الحمدالله تأتي على خلفية التعدي على صلاحياته من قبل أعضاء في الحكومة، بحسب ما اوردته وسائل الاعلام؛ وكذلك "نتيجة غياب توزيع الصلاحيات بين نائبي رئيس الوزراء على النحو المطلوب". نائب الحمدالله الأول كان متخصصا في الشئون الاقتصادية، ونائبا ثانيا مختصا بالشئون السياسية وملف المصالحة الوطنية، وفي حال قبول الاستقالة ستكون حكومة "الحمدالله" أقصر حكومة في تاريخ السلطة، وسيبقى أمام الرئيس مهلة أسبوعين فقط لتكليف شخص جديد بتشكيل حكومة جديدة، على أن يتم تمديد هذه الفترة أسبوعين إضافيين. ومع وصول الأنباء عن اجتماع الرئيس الفلسطيني مع رئيس الوزراء المستقيل ونائبيه لحل الأزمة، هل ستكون هذه الاستقالة نهائية لا رجعة فيها، أم أنها ستكون "كارت أصفر" لمنحه كامل الصلاحيات دون تعدٍّ من نوابه، ليذكرنا بسلفه سلام فياض الذي كان قد أعلن عن استقالته على الأقل ثلاث مرات منذ توليه منصبه عام 2007. ملابسات مشحونة وعلى الرغم من أن تعيين "الحمدالله" على رأس الحكومة قد أنهى فصلاً من فصول الجدل الفلسطيني حول بقاء سلام فياض في منصبه، الذي ظل مسيطراً على الأوساط الفلسطينية في الآونة الأخيرة، إلا أن تشكيل حكومة لتسيير الأعمال قوبل بالرفض من بعض الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة "حماس" في قطاع غزة، بجانب امتعاض بعض أعضاء المجلس التشريعي، لا سيما وأن الغالبية لا تزال تنتظر تشكيل حكومة الوفاق الانتقالية بموجب اتفاق بين طرفي المصالحة الفلسطينية في الضفة والقطاع، بعد اجتماعات القاهرة و الدوحة خلال الشهر الماضي. وتعتبر حركة "حماس" المعترض الوحيد حتى الآن على تشكيل حكومة برئاسة "الحمدالله"، حيث قال الناطق باسم الحركة بأنها حكومة غير شرعية، ومن جانبه قال فوزي برهوم - المتحدث باسم حماس -: "إن الحكومة التي سيشكلها الحمدالله هي غير شرعية وغير قانونية؛ لكونها لن تعرض على المجلس التشريعي المعطل منذ الانقسام الفلسطيني منتصف 2007. وتزايدت حدة الأجواء المشحونة إثر تشكيل حكومة "الحمدالله"، حتى خرجت أول تظاهرة ضدها في نابلس؛ تنديداً بالغلاء وارتفاع الأسعار، وكانت قد عقدت جلستين فقط. ومن ناحية أخرى، رأى محللون وسياسيون فلسطينيون أن قدرة الحكومة الفلسطينية بقيادة رامي الحمدالله على العمل بعيداً عن سلطة الرئيس محمود عباس، كان مقدراً لها أن تبقى محدودة، واعتقدوا بأن هذه الحكومة المفترض أن تكون مؤقتة، لن تكون كذلك بالنظر إلى تعثر ملف المصالحة مع حركة "حماس". من يحكم الضفة؟ وعند تكليف رامي الحمدالله بتشكيل الحكومة، قللت أوساط فلسطينية مختلفة من قدرة الحكومة الجديدة على إحداث تغيير في الحالة الفلسطينية المأزومة، لكونها لن تخرج عن سيطرة مؤسسة الرئاسة الفلسطينية، فضلاً عن تردي الوضع المالي واستمرار الانقسام الفلسطيني وانسداد أفق عملية السلام مع الإسرائيليين. ومن الناحية الفعلية، تشير تقديرات بعض المحللين إلى أن الحكم في الضفة الغربية ليس للفلسطينيين، رغم أنهم يظهرون على وسائل الإعلام ويتحدثون عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وإنما القرار بيد إسرائيل وأمريكا، ويعمل على تنفيذه القنصل الأمريكي في القدس المعروف بالمندوب السامي الأمريكي، والمنسق الأمني الأمريكي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومؤسسة الUSAID. وبالتالي تصبح هناك مظلة إسرائيلية أمريكية تراقب وتوجه، وعلى الفلسطينيين التنفيذ ضمن الحيز المعطى لهم، وعليه فإن الحيز المعطى للفلسطينيين محصور بمساحة هذه المظلة. ومن ناحية أخرى، تسعى الإدارة الأمريكية إلى استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المباشرة بعد ثلاث سنوات من التوقف، لكن دون إحراز أي تقدم يذكر حتى الآن في الجهود التي يبذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري. وفي سياق آخر، باتت السلطة الفلسطينية عرضة للابتزاز الأمريكي من جديد، وما ترتب عليه من عملية ربط قسري للاقتصاد الفلسطيني بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي، ومن ثم اعتماده على المساعدات الدولية بعد اتفاقيات "أوسلو"، وتبعاً لذلك ستواجه الحكومة الفلسطينية القادمة تحديات اقتصادية مختلفة، خاصة في ظل عدم استقلالية الاقتصاد الفلسطيني، وسيطرة إسرائيل على دينامية واتجاهات التجارة الخارجية وقوة العمل الفلسطينية. بدائل الإنقاذ ومع تصور الكثير من المراقبين والمهتمين بالشأن الفلسطيني أن هذه الاستقالة لها خلفية، تتمثل في أن "الحمدالله" شخص إداري ناجح ليس له باع كبير في دواوين السياسة، فعندما شعر بالتعدي على صلاحياته من قبل أحد نوابه سارع بالاستقالة، وبالتالي يمكن أن تكون هذه الاستقالة غير نهائية بالنظر إلى الجهود والمساعي وخاصة من الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" لثني استقالة "الحمدالله"، وتقسيم الصلاحيات على نحو واضح بين الأخير وبين نائبيه؛ مما يجعل الحكومة تعمل فريقاً واحداً، فهكذا يبدو البديل الأول. وعلى مستوى البديل الثاني، قد يواجه الرئيس "عباس" حالياً بعض الخيارات إذا ما استبعدنا أن يتمكن في ثني استقالة "الحمدالله"، فبإمكانه أن يتولى مهام الرئيس ورئيس الوزراء معاً كجزء من حكومة وحدة بهدف إنهاء النزاع مع «حماس»، في حين لا يوجد ما يضمن قبول "حماس" لهذا الخيار. ومن الممكن أن تكون هذه الاستقالة فرصة أمام إحياء جهود المصالحة من إجراء انتخابات تشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية تنهي الانقسام، لكن حتى الآن لم تتفق "حماس" ولا "فتح?" على موعد هذه الانتخابات وكيفية تنظيمها، وبدلاً من ذلك ألمح «عباس» إلى أنه سيبتعد عن جهود الوحدة عن طريق تعيين رئيس الوزراء، على أن تتركز سلطاته في الضفة الغربية فقط. ويبقى القول بأن مواجهة التحديات المشار إليها آنفاً، والتي ستكون استقالة "الحمدالله" طرفاً جديداً فيها نتيجة الفراغ السياسي، تتطلب إرادة فلسطينية سياسية صادقة، تتخطى الحساسيات والحسابات السياسية الضيقة، للوصول إلى الأهداف المرجوة، لكن عقدة المصالحة الفلسطينية الحقيقية تبقى الرهان الأكبر لنجاح حكومة "الحمدالله" لمواجهة التحديات، التي ربما تعصف بالمشروع الوطني الفلسطيني، حيث باتت مطلباً جوهرياً للشعب الفلسطيني وقواه الحية في الداخل الفلسطيني وفي الشتات؛ بغية حماية المشروع الوطني الفلسطيني وتحقيق الأهداف الأسمى، وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. ومن هنا، تعلو ضرورة السير بإنجاز ملفات المصالحة الخمسة وهي تشكيل الحكومة، والانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، ومنظمة التحرير، والحريات العامة والمصالحة المجتمعية، وفق ما تم الاتفاق عليه خلال إعلاني "الدوحة" والقاهرة، خاصة وأن فرص تعزيز المصالحة وتوسيع مشاركة القوى الصامتة في اتخاذ القرار الوطني الفلسطيني الصائب، سيكون أمراً سهل المنال، في ظل استمرار الثورات العربية، وانكشاف صورة إسرائيل العنصرية أكثر من أي وقت مضى. وفي النهاية، ثمة نتيجة لا تقبل الشك مفاداها أن استقالة "الحمدالله" ستفتح الباب من جديد أمام الجدل في جذور الأزمة السياسية التي لا تعاني منها السلطة والحكومة الفلسطينية فقط، بل مجمل المشروع الوطني الفلسطيني.