لم يكن للاحتفاء الذى قابلت به المعارضة "العلقه" التى ضريتها الناشطة والصحفية رشا عزب للإسلامى أحمد المغير ما يبرره .. فليس كل الذين ذهبوا لتأييد وزير الثقافة ومنهم "المغير" علاقة بالثقافة ، ولا كان للمعترضين علي الوزير ومنهم رشا علاقة بالثفافه أو المثقفين المعتصمين فى مكتبه .. الموضوع كله كان سياسة .. أو لنكن أكثر تحديداً كان "بروفة" لمظاهرات 30يونيو .. وما سيحدث فيها .. وأيضاً بدا واضحاً أن هناك روح انتقام متجذرة فى نفوس المعارضين للإخوان الأمر الذى بدا معه التصالح بين معسكر الإخوان وبين كتلة تمرد مستحيلاً .. فقد أعلنت رشا أنها ضربت "المغير" انتقاماً لاستشهاد زميلها الحسينى أبو ضيف الصحفى بالفجر الذى تردد أنه لقى مصرعه على يد الإخوان فى أحداث الإتحادية .. وقال الإخوان أو الإسلاميون الذين ذهبوا لتأييد الوزير أنهم توجهوا لشارع شجرة الدر بالزمالك رداً على اقتحام المعارضين للشوارع المؤدية إلى مكتب الإرشاد بالمقطم واعتدائهم على شباب الإخوان .. إذن لا المعارضين ولا المؤيدين كانوا ينتصرون لموقف من الثقافة التى يشعر المبدعون الحقيقيون أن هناك خطة لأخونتها ، بينما يزايد عليهم الإسلاميون ويقولون أنهم "فئة ضالة" – كما قال العريان – ولابد من تهذيبهم وتقويمهم .. إذن المشهد الدامى الذى شهدناه خارج الوزارة ، ليس له علاقة بالثقافة ولا بالإبداع وهو يختلف تماماً عن الاعتصام المنظم والعلمى لمجموعة من المثقفين لهم هدف واضح ومحدد .. ودعونا ندخل إلى الاعتصام ونصفه بعيداً عن روح الثأر والانتقام التى تسود جموع المتصارعين .. ولندلل على أن المثقفين متحضرون فى خلافهم ومطالبهم .."على هذه الأرض .. ما يستحق الحياة" هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين وخوف الطغاة الابدي من الأغنيات.. أينما نظرت ، تجد وجهاً للحماسة والبهجة والفن. هذا اعتصام برائحة النيل والغناء والموسيقى والكتابة الحلوة والثورة. أيادى شباب الأوبرا المصرية والكتاب والتشكيليين ، تسقى حديقة وزارة الثقافة ،لتطرح أشجارها من جديد ،بعدما قصفها الفساد ،وأجهزت عليها الفاشية الحاكمة ، يفعلونها تحت مظلة أسماء لا تصلح للمزايدة أو التشكيك فى النيات: بهاء طاهر , صنع الله إبراهيم , محمد هاشم , محمد عبلة , فتحية العسال , فردوس عبد الحميد , سيد حجاب , سامح الصريطى وغيرهم ممن لا يسمح وجودهم بأى ابتذال. فبات وصفهم ب "خدم سوزان مبارك" نكتة غير مضحكة ، بداية كان هدفهم إقالة الوزير الجديد علاء عبدالعزيز، بعدما جاء أداؤه الأول مخيباً لطموح المثقفين المصريين. لكن التطور أصاب الاعتصام ، شأنه شأن الاحتجاجات التى لا تلقى رد فعل لائقاً من السلطة ، فيرتفع سقف المطالب ، وتتسع الدائرة فينضم إليها عدد من الحركات الثورية الأخرى ، مع شعور بتلميس حقيقى مع الشارع ، وأثر نفسى أصبح محفزاً للتظاهرات الكبيرة المنتظرة يوم 30 حزيران (يونيو) الجارى فى ذكرى تولى مندوب مكتب إرشاد الجماعة محمد مرسى رئاسة الجمهورية. أنت تجده نفسك فيما يشبه غرفة عمليات ، أجهزة كمبيوتر مفتوحة ليل نهار ، وهواتف لا تتوقف عن الرنين ، وأخبار تتوالى من – وإلى – الاعتصام ودعم متبادل بينه وبين التيارات الثورية: "حرق المقر الرئيسى لحركة تمرد فى وسط المدينة ، وإصابة الناطق الرسمى بلسانها". يأتى الخبر فجأة ، قبل فجر أحد الأيام .. ينظم الشباب أنفسهم ، من الذى سيبقى داخل مكتب وزير الثقافة ، ومن الذى سيذهب لدعم شباب "تمرد" ، تلك الحركة البهية ، التى بات أثرها مرعباً على التنظيم الفاشى. "وزير الثقافة" فى الطريق إلى مكتبه - مقر الاعتصام – يسير فى حراسة مشددة". تعمل الغرفة كخلية نحل ، يتصل الجميع بمصادرهم ،حتى يعلو صوت أحدهم ، إنها مجرد إشاعة ،فيعود المعتصمون إلى أماكنهم ، أوراق من أحزاب وحركات ثورية تأتى لدعم الاعتصام ، وأوراق أخرى تخرج ، ليذاع محتواها على المنصة التى تتحول ليلاً إلى مسرح للنشاط الفنى. التجهيز للاعتصام , كان ماهراً ، بدأ موحياً باجتماع ووقفة احتجاجية ،وبينما انشغل الجميع بالتجهيز له ، كان عدد من رموز الفن والثقافة المصرية يدخلون بهدوء واحداً تلو الآخر إلى مكتب الوزير بعدد من المبررات الوهمية ، حتى يأتى الوقت المناسب ويعلنون الاعتصام ويستدعون المتضامنين ، لدرجة أشعرتنى بأننى خارج لتوى من فيلم "ناصر 56" وأن كلمة السر ستكون: "ديليسبس". قلتها لهم على سبيل الدعابة. ولو أن لكل حدث ذروة ، فلهذا الاعتصام عدد من مناطق لامعة ، بدأت مثلاً عندما تضامن موظفو المكتب مع المعتصمين ، وطردوا العاملين الجدد الذين جلبهم الوزير من أنصار جماعة "الإخوان". تتجلى حماسة المعتصمين ، وينسى بعضهم مشادات قابلته أثناء محاولة الدخول إلى مقر الاعتصام , وانتهى الأمر بالتصفيق والصلح مع أعضاء المكتب ، وإعلان شكر وتحية للموظفين الذين استسهلهم الوزير فأطاحهم ، مبرراً ذلك بأنهم سمحوا للمعتصمين بالدخول. فى آخر نهار كل يوم ، ينظم المعتصمون حدثاً فنياً أمام مقرهم ، تأتى فرق الأوبرا للتضامن ، والفرق المستقلة وتنطلق الأغانى المتنوعة ، التى لا تخلو من واحدة أو اثنتين للشيخ إمام عيسى: "مصر يا أمة يا سفينة ، مهما كان البحر عاتى ، فلاحيتك ملاحينك ، يزعقوا فى الريح يواتى ....". فى الليل ، يحلو سماع العزف على العود والشعر والغناء، والسمر فى الغرفة المطلة على نيل الزمالك حتى الصباح، فتنظر عبر النافذة وترى مراكب الصيد التى تمر بأصحابها ، ووجوههم الصبوحة الفقيرة. بعد قليل يأتى أحد الذين ذهبوا إلى بيوتهم مساء ، يحمل أكياساً تحتوى على عشرات من "سندوتشات" الفول والطعمية والباذنجان ، وآخر سيجىء بزجاجات المياه والعصائر. يستيقظ النائمون من الشباب يأكلون ويحلمون بأنهم فى يوم ما ، بعد سنوات طويلة سيتذكرون هذه الأيام ويحكونها لأجيال تأتى بعدهم ، مثلما يسمعون عن حكايات الكبار فى الستينات والسبعينات والثمانينات. هم يشعرون بالنجاح القريب ، ينبه بعضهم بعضاً ألا يخرجوا من هذا الاعتصام فقط بإزاحة الوزير وإخوانه ، ولكن أيضاً لابد من الخروج بحالة فنية وأدبية ، صنعتها أجواء مشتركة. "أهو ده اللى صار ، وأدى اللى كان ، ملكش حق ،ملكش حق تلوم على...". أغانى سيد درويش لا تزعج النائمين ، تلمح أحدهم يبتسم وهو نصف نائم ولحظات مليئة بالعواطف والحميمية. لا بأس من بعض المشاحنات الداخلية ، مع الحرص الشديد على عدم خروج تفاصيلها عبر جدران مبنى الوزارة ، يختلفون أحياناً تجد من يغنى: "يا حبيبتى يا مصر". ينتبه "المتشاكلون" فورا ، يستعيدون توازنهم: "لاينبغى أن ننسى أنفسنا نحن هنا للدفاع عن شادية وعبد الحليم ونجيب محفوظ وطه حسين والعقاد". ويتعانقون كأن شيئاً لم يكن ، ينتبهون على صوت آلات تنبيه السيارات التى تعلو فى شكل هيستيرى، سائقوها ينظرون إلى الواقف حاملاً بيده لافتة ، يضحكون ويشيرون بعلامة النصر ، وهم يقرأون المكتوب عليها:"لو بتكره الإخوان إضرب كلاكس".