يبدو أن الموجة الثانية من الثورة المصرية قد اتضحت معالمها، فهي حسب أغلب الآراء هي الموجة الثقافية التي ستفصل بين الدين والدولة، وتضع إجابة واضحة للسؤال المعلق منذ مائتي عام عن النهضة وكيفية حدوثها، فمع مجيء نابليون بونابرت إلى مصر بجيشه المنظم ومعداته الحربية الحديثة ومجمعه العلمي وحديثه عن الديمقراطية الغربية وقد ثار سؤال لدى المصريين عن كيفية النهضة من عصور الظلام، البعض رأى أنها بتمثل الغرب في ديمقراطيتهم ومناهجهم العلمية الإجرائية، وكان لمحمد على بوصفه أول حاكم منتخب للبلاد بعد خروج الفرنسيين وثورات المصريين على الولاة العثمانيين توجهه الواضح نحو هذا الاختيار. وقد سار حكام الدولة العلوية على هذا النهج في إرسال البعثات إلى الغرب واتباع خطوات النهضة الأوربية في عملهم، وهو ما جعل النخب الثقافية ترتبط ارتباطاً واضحاً بالحكام والرؤية الغربية في الإجابة على سؤال النهضة، لكن مشروع الدولة العلوية لم يلتفت كثيراً إلى الشارع والقرى والنجوع، هؤلاء الفقراء المتمتعين بأمية طويلة المدى والذين تركوا لأصحاب الإجابة الثانية، وهي أن النهضة لن تحدث إلا باتباع خطوات السلف الصالح، وإعادة تمثلهم في القول والفعل والزي، فانتشرت التكايا الصوفية، وكانت منتشرة بالفعل منذ أمد سابق على العثمانيين أنفسهم. مثلما انتشر دعاة السلفية الفكرية والعملية في الشارع المصري، ومن ثم فأغلب المفكرين الإسلاميين جاءوا من هذا الاتجاه، حيث التصوف النبيل المتسامح الهادئ، والسلفية المعنية بإعادة إنتاج الماضي لمواجهة الحاضر والمستقبل، والذين سعوا إلى الجمع بين الإجابتين أحدثوا نوعاً من التلفيق مما أحدث كارثة أعظم من كارثة الفصل الواضح بين الفكرتين، فجمال الدين الأفغاني المؤمن بالنموذج الأوربي لم يكن يسعى لهدم الخلافة بقدر ما كان يسعى لتجديدها، وتلميذه محمد عبده الذي أصبح مرجعاً معتمداً لدى الإسلاميين والعلمانيين أصبحت كتاباته ملهمة لكلا الفريقين، حتى أن سعد زغلول كان من تلامذته مثلما كان رشيد رضا، وكلاهما اعتمد على مقولات ورؤى لدى الرجل في نصوصه، وكلاهما تمسك بما يعضد فكرته ويقوى رؤاه، فزاد الأمر صعوبة نظراً لوجود مرجعية لا يختلف عليها أحد، لكن مع البنا ذي النشأة الصوفية والمنهج الدعوى تحول الأمر إلى كيان مسلح، ربما بحكم وجود متغيرات جديدة في المنطقة كالكيان الإسرائيلي وعصاباته المسلحة، وربما بحكم التمويل الوارد من الملك لمواجهة فيضان الليبرالية الوفدية. وبالطبع حدثت مغازلات من البنا للملك في مقابل ذلك، كالإيهام بنقل الخلافة الى مصر بعد سقوطها في تركيا، وأن يكون فاروق الأول هو الخليفة، وكانت هذه أول خطوة للتقابل بين الإجابة الأولى والإجابة الثانية، ففاروق الأول الذي تعلم في الخارج وعاش حياة التنوير صار حالماً بأن يكون خليفة للمسلمين، لكن ظمأ الاتجاه الإسلامي أو السلفي بشكل عام للسلطة والحكم جعله يخرج مبكراً عن الخطوط المرسومة له، وفرحه بالقوة التي يمتلكها دون غيره من الأحزاب جعله يدخل في سلسلة اغتيالات لرموز الحركة الوطنية وممثلي سلطات الدولة، وهكذا جاءت النهاية المبكرة للجماعة، لكنها ليست نهاية الإجابة، فالإسلاميين لم يصلوا إلى الحكم، ولم يظهروا وجههم للناس، ولم يتم اختبارهم بشكل حقيقي، بل إنهم زادوا شهيداً في طريقهم للعمل. هذه التجربة أثرت بقوة في رجل محبط كسيد قطب، رجل لم يتم الاعتراف به على المستوى الأدبي، ولم يستطع أن يكون وزيراً للمعارف رغم تهليله الكبير بالثورة، مما جعله ينضم إلى الإخوان فعلياً عام 54 ، وجعله يدير حركتهم الإعلامية ضد جبهة التحرير، مما جعل ضباط يوليو يلقون القبض عليه، مثلما فعلوا مع كثيرين عقب حادث المنشية، للتتحول كتاباته المدافعة عن الإسلام إلى كتابات تأسيسيه للثأر والعنف وتكفير المجتمع وهجرته والعودة إلى فتحه من جديد، وتتحول فكرة التغير من القاعدة ( إبدأ بنفسك ) إلى أن يطالب المجتمع ككل بتطبيق الشريعة إلى التغيير بالقوة، وبدلاً من استخدام القوة لرد العدوان أصبح مبرر استخدامها في إرباك النظام، وهو ما جعله المؤسس الثاني للجماعة، وجعل الجماعة تنفجر من داخلها إلى عشرات التنظيمات والجماعات الداعية إلى العنف والخروج على الحاكم في مواجهة مهادنة الهضيبي والتلمساني للنظام، وفي الوقت الذي كانت فيه الناصرية خصماً لكل من التنظيمات الشيوعية والإسلامية فإن عصر الرئيس المؤمن كان المفرخة الحقيقية لتنظيمات الإسلاميين في مواجهة الشيوعيين والناصريين ومراكز القوى في الدولة التي كانت ناصرية. وهكذا خرج من جديد الإسلاميون عن الخطوط الحمراء وقتلوا السادات مزايدة وسعياً إلى تكوين الإمارة الإسلامية الأولى كطريق إلى بناء الخلافة الكبرى، لكن مبارك الذي لم يكن مؤمناً ولا ساعياً إلى الخلافة كفاروق قرر أن ينهي على الجميع، بل إنه ساعد في التخلص منهم إما عبر السجون أو عبر الذهاب إلى دول الخليج وأفغانستان وباكستان، ليستتب له الأمر حتى نهاية الثمانينيات، لكن مع عودة المجاهد في أفغانستان والبانيا وغيرها كان لابد من صيغة جديدة، صيغة توافقية لوقف العنف المنتظر، وكانت الصيغة تقوم على المراجعات ونبذ العنف في مقابل التجارة المتوسطة، والسماح بالعمل مع الفيئات الدنيا والوسطى في المجتمع، وهكذا ظل أمن الدولة هو الحاكم الفعلي لدولة الإخوان والسلفيين الباطنية في المجتمع المصري. لتصبح الإجابة الثانية المتمثلة في النهضة بالعودة للسلف الصالح هي الإجابة التي ينطوي عليها المجتمع المصري، بينما الإجابة الأولى القائمة على اللحاق بالغرب وأسلوبه ومنهجة العلمي لا تزيد عن كونها قشرة تغلف الشكل العام للدولة، وكان مبارك حريصاً على أداء صلاة الجمعة كرئيس لدولة مسلمة، مثلما كان حريصاً على حضور شعائر ليلة القدر وتوزيع الجوائع الدينية بها والسلام على شيخ مشايخ الطرق الصوفية، لكنه في النهاية ظل ممثلاً للدولة التنويرية الحديثة، رغم أنه رجل عسكري غير مؤمن لا بالدولة الحديثة ولا القديمة، ومن ثم فكان الإسلاميون هم المرشح الوحيد القوى والمسيطر على الشارع في حال فراغ السلطة، كانت الإجابة الثانية هي البديل الفعلي حال سقوط ورقة الإجابة الأولى، وكان المجلس العسكري بحكم طبيعته المحافظة يرى أن الإخوان هم الفصيل المكتمل، وأنه لا تضارب بين الإخوان والجيش، فكلاهما متدين بشكل أو آخر. لكن ما حدث لم يكن في حساب أحد، فقد ظهرت الإجابة الثانية على أنها ليست ضد المدنية فقط ولكن ضد الدولة ككل، لأن أبناءها ليسوا أبناء إدارة، وفكرتهم تقوم على أمر يختلف مع الصيغة التي يتكون عليها العالم الآن، ولأن المواطن المصري المسالم والمؤمن بالاستقرار كطريق للنهوض والمشاركة في الحضارة الإنسانية لم يجد الحدود الدنيا مما حلم به من أمن واستقرار فقد بدا واضحاً أنه حسم قراره، إذ أن الإجابة الأولى توفر له المسألة الدينية كما توفر له الرقي والتقدم، بينما الورقة الثانية تقدم له عالم من الخيال والوهم، وتدخله في منظومة لم يتعود عليها من السمع والطاعة وتبرير كل ما يفعله رؤساؤه، ويبدو أن تلك الإجابة أصبح منتظراً لإعلانها يوم الثلاثين من يونيو، حيث تم الاتفاق على النزول إلى الشارع في الوقت الذي يسارع الجميع فيه للتوقيع على استمارة التمرد التي اكتسبت قانونيتها من اعتراف العالم بها، لكن السؤال الآن هل يحافظ أبناء الإجابة الثانية على وجودهم في الشارع المصري كفصيل ضمن فصائل عديدة للمجتمع، أم أنهم بحماقة السلطة المعتادة سدخلون في مهاترات العنف لقمع المجتمع ككل، وهو ما قد يعرضهم للقضاء على فكر الإخوان ووضعهم في لائحة سوداء تشبه لائحة النازيين وفكرهم في المجتمع الألماني؟ أرجو أن ينتبهوا إلى أنهم لم يعودوا يغامرون بمستقبلهم في السلطة فقط ولكن بوجودهم في الشارع المصري ككل من الآن فصاعداً.