عندما تعَرف "أبوخليل لطفى" (1920-1993) على أستاذه "يوسف العفيفى" (1902-1972) أحد رواد التربية الفنية، وصاحب الدور الأهم فى تحديث الحركة الفنية المعاصرة فى مصر،كان ذلك أثناء دراسته فى"المدرسة السعيدية" بالجيزة، أما دراسته فى قسم الرسم فى" معهد التربية للمعلمين"(1942-1944) فكانت بعد تخرجه من"مدرسة الفنون الجميلة"بالقاهرة (1942) وبعد ذلك استكمل دراساته العليا بجامعات "أوهايو" و"شيكاغو" و "نيويورك" (1945-1953) ثم عمل أستاذاً بالمعهد العالى للتربية الفنية. وبعد أن تشكلت معالم الأسلوب التعبيرى التجريدى، اتخذ الفنان من ممارسته للفن سبيلاً للتحرر وللاتحاد مع الوجود ،بل للانتشاء الصوفى، حتى توصل برسم الأشكال فى لوحاته بحركة أرابسكية، إلى تصويرما يعادل الحركة الكونية، وإلى أسلوب فنى معاصر يتفق مع مبدأ حرية التعبير ومع التمرد على التقاليد المستهلكة. وبهذا الأسلوب تميزت معارض الفنان التجريبى التى أقامها فى القاهرة وشيكاغو ونيويورك بنزعة طليعية. ومن يشاهد لوحة ل "أبو خليل" يشعر بشئ من التفاؤل يدرك معناه بحدسه، فينفذ عبره إلى ما قبل وعيه,حيث لا تنفصل الفوضى عن النظام، وحيث يختلط الشعوربالخيال والواقع. لقد تميزت هذه اللوحات بحساسية شديدة، وتضمنت وحدات تشكيلية تبسيطية،واحتوت خطوطاً هندسية دقيقة، واشتملت على طابع بدائى، وعلى أبعاد تأملية وحلمية وتزخر بأجواء شاعرية، بل فكهة ولطيفة. لقد اعتاد هذا الفنان فى تجاربه الفنية استخدام مجالات متنوعة من الوسائط للتوصل إلى تقنيات مبتكرة، مثل سكب الألوان وخدشها، بغرض إحداث حالة من الشفافية تسمح بالتغلغل عبرالسطوح، بالإضافة إلى الخطوط الجريئة والألوان الخافتة التى تتحول إلى إشارات ورموز، لها دلالاتها النفسية وأبعادها الروحية، فتغرى من يشاهدها بممارسة تجربة تأملية - حدسية، أوبالاستغراق بهدوء فى مسائل ماورائية-غامضة. وعندما ينقب الفن التجريدى فى اللاوعى، فإنه يبدأ فى لاوعى الفنان وينتهى فى لاوعى المشاهد. وحيث يندمج الشكل واللون فى لوحات "أبوخليل" يطمس التداخل الفروق المكانية، حتى يبدو الشكل يغرق فى اللون المحيط. وتفترض المساحات اللونية الواسعة تخلص الفنان فى الرسم من لغته السردية، فتبدو الصيغة أكثرتماسكاً وفرادة. وتستلزم تلك التقنية الإعلاء من قيمة الروحى ومن اللامرئى،مما يقوى العنصرالمشاعرى فى رؤية المشاهد. وحين تتحد الهندسة مع العناصرالنباتية،تتشكل البيئة الخصبة من الإشارات التى تعكس على المستوى الحدسى، المعانى المجردة والأبعاد الرمزية. أما الحقائق المجهولة فلا تدرك بالبصرأو بواسطة الاحساس المباشر,بسبب ما تتضمنه من طاقة نفسية ووجدانية،بالاضافة إلى العناصراللاشعورية، التى تتجاوزالمعنى المباشر وتتجاوز أساليب التعبير بتمثيلات واقعية. ومن المؤكد أن سرجمال التشكيلات المجردة لإبداعات الفنان بنسقها الإشعاعى فى الفراغ هوعمقها العاطفى والرمزى. ومن لوحات التشكيلات الحروفية التى لا تقف عند تفسير الحروف للدلالة على معنى مباشر, لوحة "تسابيح"(1963 ). إنها تتعدى حدود البصرى لتصل إلى الجانب الذى لايرى، ويتطلب إدراكه الانتقال إلى المستوى الخيالى أوالعاطفى أوالمفاهيمى. أى الانتقال من عالم الرؤية الحسية إلى عالم الرؤية الجمالية، وصولاً إلى السطح. لأن الرؤية الفنية الحقة جمالية، وليست مجرد محاكاة تسجيلية، مهما امتلكت مهارة الصنعة التى مع تكرارها تفقد حيويتها، ويفقد الفنان إحساسه بمتعته فى ممارستها على عكس التجربة الفنية الحقيقية. وبالتجريد تفقد الصور طبيعتها الشيئية وتكشف الجوهرالوجودى. وتتبادل فى تلك الصورعلاقات التشكيل مع الفراغ فى حوار بين ضوء شكل وتجويف، فتعكس لحناً شاعرياً وورعاً. وعندما يتنقل المشاهد من نقطة إلى أخرى دون توقف تنبعث الأفكاروالمعانى الروحية فى متعة ذهنية- روحية. وللتماثل الهندسى فى لوحة تجريدية مثلما يصادف فى الأشكال السداسية، شبيها فى البيئة الطبيعية,إذ أن الشكل السداسى لخلية النحل يتبع القانون البنائى المشابه لبنية ذرة الجرافيت . وكان "أبو خليل لطفى" مقتنعاً بأن الإبداع الحر لا ينبغى أن يخضع لأى هيمنة، نظراً لدوره الريادى والطليعى فى تغيير قيم المجتمع، وتجديد اختياراته فى عالم الجمال، بفضل عرضه لغير الشائع وغير المتوقع من تجارب الفن، من أجل أن يرسخ مبدأ التسامح الذى يقصد عرض العمل الفنى على جمهورغيرانتقائى، والتعايش بين مختلف الاتجاهات التى من المفترض أنها تكمل بعضها البعض. من هنا أراد "أبوخليل" أن يمارس عمله الفنى بإرادته وبحرية، وأن يختارأفكاره الفنية وأسلوب تنفيذها دون التقيد بمواصفات وتقاليد وآليات مسبقة، لمناهضة ما يعيق التجديد الذى من شأنه أن يجعل العالم أكثرجمالاً، وأن يمنحه معناه وأبعاده الروحية. وتتميزتجريدات "أبو خليل" بالسيولة والعفوية، حيث يتجنب فيها التخطيط المسبق . ولقد وسع الفنان مبدأ تقدير رحلة إنجاز العمل الفنى، على أساس أنها لاتقل أهمية عن العمل الفنى ذاته كمنتج نهائى، إذ كان يركز بأسلوبه هذا على تصوير العواطف، بدلاً من الكائنات. ويفضل ذلك الفنان الرسم بألوان متألقة، مع العناية الفائقة بقيم السطح والملمس. وفى الحقيقة أن المنهج التجريبى يتفق مع الطابع النقدى الذى يضع العمل فى مكانة أولية، فى مقابل العقل العاجز عن معرفة الوجود فى ذاته. بل ينظر إلى الفن كعمل أكثر من أن ينظر إليه كتمثيل لشئ مادى يراه ببصره. حينئذ يصبح قوام الفن هو الحدس، الذى يحتفى بالحياة بمفارقاتها وتناقضاتها كظاهرة فنية جمالية،تخترق إرادة الحياة وتخترق عالم الفنان بقوة واندفاع، من أجل أن تسمح لقوى الطبيعة بأن تتدفق بحرية، فيعود الإنسان إلى أصله. ومع الخوض فى عالم لوحات "أبو خليل لطفى" تبدو تتشكل كبيئات من الخطوط والألوان، وتحدث ما يشبه التصارع المصحوب بتوتر الذى يتبعه استرخاء، فى حالة تجمع بين الشعور واللاشعور دون إنقطاع. وتشهد الأعمال الفنية على تمكن الفنان الذى يرسم بتلك الطريقة حتى يمنح اللامتناهى شكلاً مرئياً.وتسمح تقنيته للحياة بقوتها بأن تخترق عالم فنه فيندمج فى خضمها وهى تفور وتندفع. وغالبا ًلم يكن نوع الفن الذى أنجزه "أبو خليل لطفى" يخضع لشروط السوق التى تطلب أنواعاً نمطية من "طبيعة صامتة" أو "مناظر ريفية" أو"وجوه نساء جميلات" أو"فلاحات فى السوق" إذ كانت لوحاته بمثابة اكتشافات لتقنيات غير تقليدية، وتجديدات وتنويعات مدهشة، مثلما ظل الفن المصرى عبر التاريخ حيوياً ويقدم دائماً الجديد. وليس العقل وحده هو السبيل لمغزى لوحات الفنان الذى يبحث عن شكل يرسم فكرة كونية وعن لون يصور تخيلاته فى عالم حلمى جميل. لقد ظل"أبو خليل" يفهم الفن على أساس أنه يمثل "لانهائية المعنى" فكلما تأمله المشاهد يتضاعف معناه، لأنه لا يتمركز حول ما يهم العقل وحده، ولا يتقيد بالمفهوم التقليدى لفكرة التلقى السلبى فى عملية المشاهدة ،بل أن الجمهور هنا مشاركاً فى العمل الفنى الذى لا ينتظر التأويل ليكتسب معناه، وكأن المتلقى يساهم فى إنجازه. حتى كاد الفنان مع المتلقى أن يعيشا لحظة معاً، فى الزمن الآنى والمستمر دون توقف.