لم تكن غاية مشروع الثورة إسقاط حكومة بقدر ما كان سعيا لتحقيق الحلم الذي راودنا جميعا، ألا وهو "صناعة الغد المشرق". وقد خرجت الملايين من الناس تهتف وتسعى لتحقيق ذلك الحلم واستطاعت هذه الجماهير على الرغم من اختلاف أيديولوجياتها أن تطيح بذلك النظام في صورة أبهرت العالم. الغريب في الأمر الآن أن هذه الجماهير التي خرجت من أجل حريتها بدلا من أن تتمتع بمزيد من الحرية المسؤولة تراها الآن تشاهد إعلاما يكبّل عقلها إما برؤى وفزّاعات متوارثة من النظام البائد، وإما بخطوات تبدو قانونية من أجل تكبيل هذه العقول. هذه الجماهير بدأت تصطدم أيضا بقانون يقيد حركتها بدعوى وجود أسباب تقتضي فرض حالة الطوارئ مرة أخرى بعد إلغائها في التعديل الدستوري "19 مارس 2011" كما أشار لذلك المستشار طارق البشري. وتم تفعيل حالة الطوارئ مؤخرا دون أدنى توضيح من الجهة الحاكمة للصورة التي تصف إلزامية فرض حالة الطوارئ والتي تمنع القائمين على أمن البلاد من ممارسة مهام عملهم. إن الأزمات في مصر تتفاعل مع بعضها وتتمخض عنها أزمات جديدة تزيد الوضع العام سوءاً. حتى بدا لبعض المبتهجين بالثورة في السابق أن مشروع التغيير يحتاج جهدا أكبر بكثير مما توقعوه. وشعر البعض الآخر أن الثورة لم تجلب معها إلا الإحباط ولم يتحقق معها مكاسب سوى محاكمة النظام السابق وأعوانه في قضايا تبديد المال العام دونما إفساد الحياة! بينما شعر آخرون أن هذه المشاهد ما هي إلا إعادة صياغة للنظام السابق في صورة أخرى؟ أعتقد أننا نعاني من فقدان للبوصلة التي توجهنا لرؤية مشكلات الوطن الحقيقية، وبالتالي عدم جدوى الحلول التي تنبنى عليها. لا أعلم لماذا يتم تشخيص الحالة المرضية للمجتمع بصورة تفيد أنه لا بد من التخلي عن مطالب الثورة من أجل الأمن والأمان والرغبة في الاستقرار مقابل استمرار حالة الخوف والاضطراب وما ينبني على فزاعة عودة الفلول في حال تنفيذ الاستجابة لهذه المطالب. ولا أعلم لماذا يتم الجمع بين قضايا عودة هيبة الدولة والحفاظ على الأوضاع الاقتصادية والأمنية من التردي والحذر من العدو الخارجي المتربص في مجابهة تحقيق مطالب الثورة، وكأن هذا الشعب مكتوب عليه أن يعاني الأمرّين من سياسة خلط الأوراق. إننا ندرك أن لكل مرحلة من مراحل المجتمع سمات تتأثر وتؤثر في عوامل نهوضه وتعثره، ولكن من المؤسف للغاية أن ندرك أن خرق حرية المواطن بعد الثورة لم تختلف عما قبلها، وأن مكتسباته قد تكون أقل بكثير من تضحياته؛ ولهذا يتعين على كل التيارات السياسية إعادة ترتيب أولوياتها وقراءة الأوضاع قراءة صحيحة بعد التحرر من الميول الفكرية والمصالح السياسية لكل طرف وذلك من أجل وقف حالة الاستقطاب للجماهير التي أدت لخصومة بين كافة تيارات المجتمع. إننا نحتاج لوقف استنزاف الطاقات في معارك وهمية لن تؤدي إلا إلى تحريك الجماهير كالدمى التي لا تملك القدرة على الاختيار أو التمييز بين ما تريده وما يملَى عليها. ونأمل من المجلس العسكري باعتباره المسؤول عن إدارة المرحلة الانتقالية بتبعاتها أن يعمل على إعادة الاستقرار في البلاد بعد إزالة المعوقات الحقيقية وراء عدم الاستقرار بمراقبة أداء كل جهاز للقيام بمسؤولياته دون التهرب من مقتضيات التغيير المطلوبة ومحاسبة المقصرين في أداء واجبهم. إن أهم وسائل تحقيق الأمن والضبط الاجتماعي الالتزام بالشفافية والحرص على المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار، والمسؤولية الوطنية تقتضي من المجلس ضرورة الإسراع بإنهاء هذه الفترة الانتقالية وتسليم البلاد لحكومة منتخبة في أقرب وقت ممكن وذلك لأن الشفافية هي المدخل الحقيقي لعلاقة سوية بين الشعب وحكامه؛ فالتاريخ يؤكد أن القرارات ذات الطابع الأمني لا تقيم دولة ولا تعيد الاستقرار حتى لو كانت هذه القرارات عبر أطر شرعية تبيح استخدام أساليب القمع. * إعلامي مصري