في الجزء الأول من هذا المقال، بدا أن النظام السوري مصمم على استخدام الخيار الأمني لقمع المظاهرات، وأن أسلوب التعذيب الدموي الذي ينتهجه في تعذيب المعتقلين، بات أمراً عاديا ومشهداً يوميا بالنسبة له، وهدفه من ذلك إرهاب المواطن السوري كي يكُفَّ عن التظاهر والمطالبة بإسقاط النظام. غير أن الشك في عدم قدرة الخيار الأمني على قمع التظاهر بدأت تزداد حدته يوماً بعد. ومما زاد هذا الشك- على ما يبدو- تلك الضغوط الإقليمية والدولية التي لم تعد تتردد في إرسال إشارات واضحة لبشار، بأنها باتت مقتنعة برفع غطاء الشرعية عنه نهائياً، كما بدأت تطالبه- وإن على استحياء- بالتنحي عن الحكم، بسبب النهج الدموي الذي يتعامل به مع المتظاهرين. ويبدو أن هذا الشك بدأ يدفعه بقوة نحو الخيار التالي، ونعني به إثارة فتنة طائفية من شأنها- إذا ما اندلعت- أن تعينه في الاستمرار في الحكم والحفاظ على عائلة الأسد في قمة السلطة. ويبدو أن النظام قد خطط لهذا الأمر مسبقا لمواجهة أي محاولات لإسقاطه. والدليل على ذلك أنه- منذ اندلاع المظاهرات قبل ستة أشهر وحتى اليوم- كان وما زال، يبرر استخدامه للعنف الدموي في قمعها بوجود عصابات مسلحة داخلية وأخرى خارجية تعمل لصالح جهات لا يهمها سوى إسقاط النظام. وكان واضحاً في توجهه هذا حين أشار إلى أن عصابات مسلحة من السلفيين في سوريا وأخرى خارجية، تعمل من أجل القضاء على العلمانية التي يلتزم بها النظام في حكم سوريا، والتي وفرت للمجتمع السوري- في نظره- التوازن بين مكوناته، وكفلت له الأمن والاستقرار. وهذا يعني بالمجمل أن التيارات الإسلامية (سواء كانت متمثلة بالسلفيين أو الإخوان المسلمين أو غيرهما)، أصبحت المستهدف الرئيس لاستخدام النظام أقسى درجات العنف في قمع التظاهرات، وبالصورة الدموية التي نراها كل يوم. ليس ثمة شك أن هذا النهج الذي يتعامل به النظام حالياً مع المتظاهرين، ينطوي على اعتقاد راسخ مؤداه : أن الإسلاميين في سوريا (وبخاصة الاخوان المسلمين)، يريدون أن يثأروا لأنفسهم من الجريمة البشعة التي ارتكبها "الأسد الأب" في الثمانينات من القرن الماضي بحقهم .. حين قصف مدينة حماة (التي كان يعتبرها معقلهم) ، وقتل ما لا يقل عن 25 ألفاً (متوسط التقديرات) من سكانها، بخلاف مئات المفقودين وآلاف الجرحى والمعتقلين، فضلاً عن تدمير نحو ثلثي المدينة. من هذا المنظور ليس من المستبعد أن خيار إثارة فتنة طائفية قد أعد مسبقاً في عهد الأسد الأب، ليكون بديلاً ِأو مساعدا للخيار الأمني إذا ما فشل الأخير في التصدي لأية حركة تستهدف إسقاط النظام كما الحال الآن. ولعل من المفيد- قبل أن نبحث في احتمال نجاح هذا الخيار من عدمه- أن نستذكر سياسات النظام الداخلية والخارجية التي اتبعها طيلة سنوات حكمه، كي نكون على يقين مما نصل إليه من تقويم للدوافع والأسباب الحقيقية التي دفعت به لارتكاب تلك الجرائم البشعة بحق الشعب السوري، والتي ما زال مصراً على المضي في ارتكابها. ولا يمنعنا من هذا الاستذكار أن نقر بحقيقة واقعة، وهي أن تعامل نظام "الأسد الابن" مع المتظاهرين بهذه الوحشية، لم يترك أي ثغرة تسمح لأيٍ كان بتبرير ارتكابه لتلك الجرائم التي أقل ما توصف به أنها دموية يندى لها جبين الإنسانية، وأن من يرتكبها يختزن في قلبه كمَّاً من الحقد والكراهية للغير. على الصعيد الداخلي:
1- كان الانفراد في حكم سوريا هدفاً غائياً بالنسبة ل"الأسد الأب" الذي استولى على الحكم عقب قيامه بانقلاب عسكري. وكان خياره الرئيس لتحقيق هذه الهدف، هو استخدام القوة المفرطة في التعامل مع كل من يحاول المس بنظامه أو يعمل على إسقاطه. 2- وحتى يتحقق له ذلك، عمل على قصر قيادات الجيش والمؤسسات الأمنية بمختلف مهامها، على المقربين من النظام سواء من أسرته أو من الطائفة العلوية حتى يضمن ولاءها. ويشاع أن الرجل كان يحرص- طيلة سنوات حكمه- على تشجيع شباب الطائفة العلوية على الالتحاق بالجيش، لدرجة أن هناك من يقول بأن الغالبية العظمى من عناصر بعض التشكيلات الرئيسة في الجيش، هم من الطائفة العلوية. ويدللون على ذلك بأن الفرقة الرابعة المدرعة التي يقودها حالياً ابنه ماهر "شقيق بشار" ، والتي تتهم بارتكابها أفظع الجرائم في مختلف المدن السورية، وبخاصة في مدن درعا وجسر الشغور وإدلب وريف دمشق، تضم في غالبيتها عناصر مختارة من شباب الطائفة العلوية الذين جرى تدريبهم وتأهيلهم ليقوموا بهذا الدور البغيض بحق من يحاول المساس بنظام عائلة الأسد. 3- وحتى يغطي الرجل هدفه الغائي في تفرد عائلته بالحكم، لجأ إلى حزب البعث العربي الاشتراكي (الذي كان يلعب- في ذلك الوقت- دوراً لا يستهان به في الحياة السياسية على الصعيدين السوري والعربي)، كي يضفي على حكمة نوعاً من الشرعية القومية، باعتبار أنه (أي حزب البعث) كان يصف نفسه بأنه حزب قومي يدعو للوحدة العربية الشاملة. وحتى يضمن ولاء رموزه، أفرد في الدستور مادة تنص على أن حزب البعث هو الوحيد الذي يستأثر العمل في الحقل السياسي في سوريا. 4- وحين بدأ الشعب السوري يشعر بوطأة هذا الحاكم وتعسفه في التعامل معه، بدأ يطالب بحقوقه المشروعة في اختيار ممثليه، والمشاركة الحقيقية في الحكم، ورفض تفرد حزب البعث بالعمل السياسي دون غيره، وبخاصة التيارات الإسلامية التي كانت تتزعمها جماعة "الإخوان المسلمون"، والتي بادرت بالمطالبة بهذه الحقوق. 5- وهكذا أصبحت هذه الجماعة المستهدف الرئيس لنظام "الأسد الأب"، الذي لم يتردد في قصف مدينة حماة (التي اعتبرها معقل الإخوان المسلمين آنذاك) بالطائرات وقذائف المدفعية والدبابات وراجمات الصواريخ. ولم يكتف بذلك، بل أصدر قانوناً يقضي- (وبأثر رجعي)- بإعدام كل من يثبت عليه انتماؤه لتنظيم الإخوان المسلمين، والذي ظل قائماً حتى قيام الثورة الحالية التي تطالب بإسقاط نظام نجله بشار حاكم سوريا الآن. 6- وحين اعتلى بشار سدة الحكم، وعد السوريين بإصلاحات سياسية واقتصادية، لم يف بأي منها بعد مضي أكثر من عشر سنوات على حكمه. وقد برَّرَ ذلك بأن الضغوط الأقليمية والدولية التي مورست على سوريا خلال تلك السنوات، هي التي منعته من تنفيذ وعوده. غير أنه (هو نفسه) دلل على كذب ادعائه هذا، حين قال بأن الخطط الخاصة بتنفيذ تلك الوعود، تم إعدادها بعد مرور خمس سنوات من حكمه .. !!! (ولا تعقيب على ذلك). كما لم يقم بمحاولات جادة لإشراك مختلف الأطياف السياسية التي يعمر بها المجتمع السوري في الحكم، أو تقليص نفوذ حزب البعث في التفرد بالعمل السياسي على الساحة السياسية، ما زاد من شعور الشعب السوري بأن لا فائدة ترجى من هذا النظام، وبخاصة أنه أطلق العنان لقواه الأمنية ومؤسساته الاستخبارية للعمل ضد الناشطين من الشعب السوري، بهدف ترسيخ حكمة على أساس ترهيب المواطنين من بطش هذه المؤسسات وجبروت تعاملها مع من يقع في قبضتها، أيا كانت انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية أو الدينية أو العرقية الو السياسية. 7- لعل من أبرز مظاهر الاستبداد التي يتعامل بها نظام "بشار"، عدم إلغائه لقانون الغاب (آنف الذكر) الذي أصدره والده بحق جماعة الإخوان، ما أكد للشعب السوري بأن بشار هو بحق "ابن أبيه" في تعامله مع معارضيه ونكثه بالوعود والعهود. 8- وهكذا أصبح بشار وأتباعه مستهدفين لطموحات الشعب السوري في التحرر من الاستبداد الذي مارسة عليهم "نظام الأسدين" بعامة، والذي أصبح يمثل كابوسا يجثم على صدر كل سوري، تماما مثلما بات كل من يحاول المساس بهذا النظام أو يعمل على إسقاطه المستهدف الرئيس له. هذه أهم الركائز الرئيسة التي اعتمد عليها النظام في رسم سياسته الداخلية، والآلية التي اعتمدها في تنفيذ هذه السياسة، والنتائج التي تمخضت عنها. ولعل أهم ما يخلص إليه المراقب من استعراضه لأركان هذه السياسة أن التفاعل الإيجابي بين الشعب والنظام لا بد أن يأتي ضعيفاً لأربعة أسباب أظهرها: الأول - تفرد النظام الذي يرأسة آل الأسد بالحكم دون الفعاليات الأخرى في المجتمع السوري، والذي يعمر بالكثير من السياسيين والمفكرين والمثقفين الذين يستطيعون الإسهام بإيجابية عالية على الأصعدة المحلية والعربية والعالمية. الثاني - التوجه الواضح نحو توريث السلطة لأل الاسد كما حدث حين عدل الدستور السوري كي يتاح لنجله بشار تولي رئاسة الجمهورية. الثالث - اعتماد النظام على العنف في فرض سياساته ما أدى به للقيام بعملية فرز للعاملين في الساحة السورية تقوم على قاعدة: من ليس معي فهو ضدي .. وهذا ما حصل مع جماعة الإخوان المسلمين السورية، الذين كانوا وما زالوا المستهدف الرئيس للعنف الذي مارسه النظام ضدهم وضد من يوالونهم خلال العقود الثلاثة الماضية. الرابع - انعدام مشاركة العناصر الفاعلة في المجتمع السوري من خارج النظام، وانعدام الشفافية بينه وبين الشعب، أدى لزيادة التباعد بين الطرفين والذي وصل- في عهد بشار- إلى حد القطيعة أو كاد.
أما في مجال السياسة الخارجية، فقد استغل النظام الشعارات القومية من أجل ترسيخ حكم عائلة الأيد وتوارثه في سوريا. وهذا ما سنتناوله في المقال القادم إن شاء الله .