من الممكن أن يصبح تمثال الأميرة "نفرت" (الجميلة) بالمتحف المصري موضوعاً لنقاش ولنوع من التفكيرالنقدي. نظراً لأنه يتضمن كعمل فني، نواحي معرفية وأخرى تقنية وجمالية، بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من قيم وما يعبر عنه من معتقدات، تعكس ثقافة المجتمع المصري منذ آلاف السنين. ومن المتوقع للنقاش أن يتعرض لمسائل متنوعة تطرحها ظروف الحياة المصرية القديمة والحديثة. وبذلك يتجاوز الاهتمام بقيمة التمثال كأثر فني - تاريخي، يشهد على رقى إحساس المصريين بالجمال وعلى نمو مستوى الإبداع فى عصرالفراعنة، ليصبح موضوعاً لممارسة تجربة نقدية، تكشف عن مستوى الفطنة والمرونة الفكرية، عند إصدار الأحكام فى مجالات مختلفة من الحياة. إن تمثال"نفرت" من الحجر الجيري، يظهر الأميرة بشعر أسود مستعار يصل للكتفين، محلي بإكليل زهري، وهي تجلس على كرسي بجوار زوجها "رع حتب" (إبن الملك "سنفرو"-الأسرة الرابعة) وإسمها مكتوب على مسنده، وعلى رأسها إكليل مزين بالزهور. وتبدو العين الواسعة طبيعية لكونها مطعمة بالبللور الصخري. إن هذه التحفة الفنية تدل على ما وصل إليه المصريون من السمو الإنساني. وقطعاً سوف يثير هذا التمثال نقاشاً حول مجموعة من القضايا التي تحتمل آراء مختلفة، بسبب اختلاف المنطلقات الفكرية، ونظراً للتنوع الثقافي الحيوي والمدهش الذي قد يصل أحياناً إلى حد التناقض. ومن هذه القضايا، الاختلاف حول الموقف من الفن بعامة والتماثيل على وجه الخصوص. ويمكن أن يواجه الزوار برأي ينطلق من مفهوم متشدد، يعتبر التماثيل أصناماً وأوثان، محرمة وتستوجب التحطيم. أما العقلية النقدية المستنيرة، فسوف يكون لها رأى آخر، لأنه من المؤكد أن الناس فى عصرالصورة لا ينظرون إلى الصورة أو إلى التمثال على أنهما يمثلان رموزاً وثنية، بل هما من رموز الجمال ومن دلائل رقى الحواس والمشاعر. ولقد شهد العالم بأجمعه على عبقرية الإنسان المصري الذي قدم الدليل على نمو حساسيته الجمالية، وقدرته على التعبير عما يجري في مخيلته وما يحرك عواطفة، وعما يجسد أحلامه ورغباته، فيرسم الأفكار ويحول المعاني إلى روائع فنية تدرك بالبصيرة، وتلمسها الحواس. وقد يثير تمثال "نفرت" كذلك نقاشاً حول "المرأة المصرية" والموقف من قضية التشدد الفكري الذي يريد أن يعود بها إلى "عصرالحريم" ويبعدها عن المشاركة في الحياة السياسية. ويغضب الرأى المعارض من انتهاك حقوق المرأة ويستنكر تهميشها، ويتخذ من تمثال "نفرت" برهاناً على المكانة التي حظيت بها المرأة في المجتمع المصري منذ آلاف السنين. إذ يشهد التمثال على المساواة التامة بينها وبين زوجها، وعلى تمتعها بالاحترام وبالحرية وبحقوقها، مقارنة بنساء العالم في عصرها. أما العباءة البيضاء -الشفافة، وقد التصقت على جسد الأميرة "نفرت" وهي مفتوحة حتى أسفل الصدر، وتظهر من تحتها حمالة رداء آخر يظهر مفاتنها، فإنها تثير مفهوم "الاحتشام " والآراء المستبدة - الغارقة فى الثقافة الذكورية، التي تحصر شرف المرأة في جسدها فقط. غير أن "الديمقراطية" تفترض تمثيل الأميرة "نفرت" بالملابس الشفافة التي تبرز جمال "الجسد" لتعبرعن المرأة التي حظيت بثقافة الحرية والمسئولية والمساواة. أما "الشرف" فيرتبط بالصدق والشجاعة والوفاء، وليس بحجب "الجسد " الذي ينظر إليه بعقلية ذكورية كباعث على الفتنة. ولو أن الجسد المنحوت في تمثال "نفرت" مع تسريحة الشعر ومكياج الوجه والحلي، هو التعبيرعن ثقافة العصر وهوية "المرأة" في عهد الدولة المصرية القديمة. ويتوصل الزائر من خلال مشاهدته للتمثال إلى تلك المعرفة الثقافية والاجتماعية. وبقدر ما يقدمه التمثال من معلومات عن العالم الواقعي، فهو كذلك يثير موضوعات مرتبطة بالحياة المعاصرة. وللمشاهد الحرية فيما يشعر به تجاه التمثال، ومن حقه أن يختار، إما أن ينجذب نحوه إعجاباً، أو ينفر منه غضباً. وتتوقف مسألة تقبل مغزى العمل الفني في الحياة، أو موقفه من معنى الوجود في ذلك العالم، على مستوى وعى المشاهد ومستوى نمو معرفته ونوع ثقافته، بل و قدرته على التمييز بين مختلف القيم، ومدى تفتحه واستنارته، حتى يواجه التحيز للآراء المتصلبة. وبذلك يمكن لأي "عمل فنى"مثل تمثال "نفرت" أن يصبح موضوعاً لتعزيز ثقافة الحوار، ولإقامة الجسور للتواصل بين العقول ولمواجهة التيارات التى لا تعترف بثقافة الآخر، فتقصيه أوتهمشه، مما يؤدي إلى إحداث تصادم. وليس المهم في التعامل مع "التمثال" الإقناع بقبول وجهة نظر نابعة من ثقافة خاصة وتحقق أيديولوجية معينة، وإنما المسألة الأهم تتعلق بالاعتراف بوجود الآخرالمختلف بأفكاره ومعتقداته حول " التمثال" وكذلك حول الحياة، بسبب اختلاف ظروفه الاجتماعية أو اختلاف اتجاهاته السياسية. وفي كل الأحوال فإن هناك حقيقة أن الحوار بين العقول هوالبديل عن العنف. ومن الطبيعى أن لا يطيق الإنسان أن يمارس تجربة المشاهدة لعمل فني، مثل تمثال "نفرت" دون أن يشاركه أحد يصرح له بمشاعره وبأرائه التي هي قطعاً تمثل أفكاره حول قضايا مرتبطة بالحياة. ومن هنا تتجلى فائدة العمل الفني في الحياة الواقعية، وفي تنميه العقلية النقدية، وفي تعديل الأفكار والآراء حول مسائل حياتية، وفي المساهمة تخليص الشخصية من جمودها وإعادة بناء الجوانب الأكثر إنسانية فيها. ويمكن الاستفادة من مناخ التناقض والتصارع بين أفراد المجتمع لتغيير الجوانب الثقافية والسياسية السلبية، ومناهضة الهيمنة ونشر الحرية والديمقراطية؛ لأن العقلية النقدية المتفتحة قادرة على التحررمن الجمود،على عكس العقلية التى اكتسبت معرفتها وقيمها الاجتماعية والسياسية بالتلقين والتكرار والاعتقاد في حتميتها وتقبل الوضع القائم، دون مناقشة أوجدل.غير أن التعامل مع الواقع ومع الأفكار حول ذلك الواقع، يستوجب الروح النقدية التنويرية، التي تتجدد مع تغيرات العصر والبيئة والفكر، وتقاوم التعصب والطائفية وثقافة العنف، والتسلط في الرأى الذي هو نقيض الإبداع. ومن مؤشرات العنف الهيمنة الذكورية والتحيز العنصرى. وقد تمارس العنف مؤسسات، ومنها الحكومات أو الأحزاب أو وسائل الإعلام. عندما لاتحفز على الإبداع والتطور وتصبح سببا للتخلف والجهل بحجة تفيرالأمن والاستقرار. أما نجاح أى تجربة نقدية تجرى على"عمل فنى" مثل تمثال"نفرت" فيتوقف على قدر تميز طريقة التفكيرالنقدى بالحرية والديمقراطية.وتجردها من أساليب" السيطرة" أو"المغالبة " أو"التهميش" من جانب تيار متحيز لإيديولوجية معينة.