من سنن الحياة الاختلاف والتنوع، بل أن سر جمال "الاختلاف" في الاستمتاع بالتكامل بين العنصرين المختلفين. ورغم ما للتفضيلات الشخصية من سلطان في عالم الذوق, فإن الإعجاب الذاتي بعمل فني على أساس الاستجابة للدوافع اللحظية وللانطباعات العابرة وحدهما، لا يكفى للإقرار بأصالته. وذلك يفسر احتمال أن لا تحظى اللوحة التي رسمها الفنان المصري "راغب عياد" (1893-1982) بالألوان المائية بعنوان "ثلاثة قساوسة وكنيسة" ( 1964) بقبول مشاهد متعصب أو متصلب الفكر، تسيطرعلى أحكامه العادة، لمجرد أنها تتناول موضوعاً دينياً مختلفاً عن عقيدته الدينية. رغم أن الفنان لم يقصد بالرسم تصوير نص من الإنجيل، وإنما أراد بتعمقه في النفس الإنسانية، التعبير عن معاناتها, برؤية نقدية وبلا تنميق. ومن المؤكد أن لوجود الآخر أهميته من أجل إدراك الذات, ومن أجل تدعيم مبادئ المشاركة والتعايش السلمي. كما أن نشر ثقافة قبول الآخر - المختلف في عقيدته، هو قطعاً السبيل لترسيخ مبدأ الحوار واحترام الرأى المعارض، لضمان الحرية الفكرية والعقائدية. أما مصير عدم قبول الآخر وفرض الرؤية الأحادية بالقوة، فإنه سوف ينتهي إلى نوع من الفكر إقصائي، وإلى الإحساس بالكراهية بين الناس.
وفي الحقيقة أن معنى"الورع" فيما يستشعره مشاهد للوحة "عياد" قد انطبع على ملامح وجوه القساوسة، وأظهرته الطاقات الروحية التي شحنت بها أبدانهم، لا يختلف عن "الورع" بمعناه الإنساني الذي هو صفة المؤمنين في أي ديانة. وبخاصة وأن الفنان قد حول بأسلوبه الفني القديسين إلى فلاحين بسطاء وكادحين، يعيشون في الريف على ثقافة المحبة والتسامح، مثلهم مثل أى فلاح مصري.
وقطعاً فإن باستطاعة المشاهد للوحة, بغض النظر عن انتماءاته العقائدية أن يستمتع بجمال قوة تأثير الخطوط الخشنة، وهي ترمز لخشونة حياة الفقراء، بل يعجبه الحرية الأسلوبية التي أظهرها الفنان، وهو يعبر عن مشاعره الذاتية. وفي كل الأحوال فإن العمل الفني يسمح بالحوار، وبتبادل الأفكار حول إمكانية العثور على أساس مفاهيمي وعلى قيم مشتركة بين الناس، وذلك من أجل التقليل من تأثير الدعوات السلبية لتهميش الآخر، ومن أجل الاعتراف بحق كل فنان كإنسان، في التعبيرعن ثقافته، والإفصاح عن رؤيته وأسلوبه الفني، مهما كانت درجة اختلافه عن الغالبية.
إذ أن تجاهل الأعمال الفنية أو تهميشها، لمجرد تناولها لموضوعات دينية مختلفة عن معتقدات المشاهد، يعكس افتقار ذلك المشاهد لثقافة الحوار، ويعكس ضحالة تجربته في الحياة، وفي عالم التذوق الفني. وهنا يستوجب الأمر التأكيد على قيمة الاستفادة من تجربة الآخرين و من رؤيتهم المختلفة، في تعميق التجربة الذاتية.
وقد حان الوقت لأن يصبح الفن هو المجال المناسب لاختبار وتنمية القدرة على تقبل الآخر (المختلف) من خلال الأعمال الفنية، التي هي بمثابة إنعكاس للحياة على نحو رمزي، يرتقي بما هو شخصي إلى المستوى الإنساني، الذي يشترك فيه البشر، رغم اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم، بغرض تأكيد مبدأ الحرية والعيش في سلام. وبفضل تطور وسائل الاتصال، سوف تعرض المنتجات الثقافية ومنها الفن، على جمهور متعدد الثقافات، على أساس أن التراث الفني يشتمل على تقاليد فنية عديدة، وأن تجاهل التنوع يعمق المبالغة في التحيز، ويتجاهل قيمة الإرادة الإنسانية الحرة في الاختيار، وقيمة جمال الفن الأكثر حيوية وثراء، بقدر اشتماله على أفكارعديدة منسجمة.
وكان للفن على مر التاريخ وظيفته في استحضار انفعالات معينة من خلال ممارسة طقوس معينة مرتبطة بطبيعة الإنسان العاطفية. ولا يكفي لاعتبار الرسوم فناً إذا ما اقتصرت على أن يعد مسبقاً كوسيلة لإثارة الإنفعال بالورع المقدس، ففي هذه الحالة سوف يمكن لأي مستوى فني يفتقد للقيم الجمالية أن يحقق الغاية؛ لأن استخدام العمل الفني كوسيلة لتحقيق غاية معينة لا يضمن وصفه بالفن. ومن يعتقد في الفعالية الدينية ل"الأيقونة "يظن أن الصلاة غير المصحوبة بالأيقونة سوف لا تجدي في تقوية الروح المعنوية أو في تطهيرها.
ورغم أن الأيقونات القبطية التقليدية كانت وظيفية أكثر من كونها جمالية، فإن لوحة "ثلاث قساوسة" التي رسمها "عياد" لم تنفذ خصيصاً لتؤدي وظيفة تهيئة المؤمنين للصلاة، وإنما لتأملها كعمل فني يتبع مفاهيم جمالية عصرية، ويهدف إلى الاستمتاع بممارسة تجربة لا تتمحور حول الموضوع الممثل في ذاته، وإنما بالكيفية التي تناول بها الفنان لذلك الموضوع، باللمسات الخشنة والخطوط غير المهذبة لتقوية الشحنة العاطفية. والرسم يعبر عن الإنسان وعن عواطفه الدفينة.
وقد رأى الفنان في البدائية والغرابة وسيلة لتحرير الفن من التقاليد الأكاديمية ، للتوصل إلى البساطة التي لا تخلو من قوة التأثير العاطفي على مستوى الجرأة الإبتكارية المدهشة, وهذا هو سر جمال اللوحة. وإذا لم تكن للوحة غاية دينية محددة مسبقاً، فلماذا التعصب المتوقع ضدها من جانب المتعصبين دينياً
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه