كان يرى أخيه عبقريا .. لكنه رفض الانضمام للجماعة أبو البنا عالم حديث كتب "الفتح الرباني" في 35 عاما في الخمسينات بدأت حماسة البنا ل"النساء" و"العمال" ظل حزينا لأنه لم يشهد الأيام الأخيرة في حياة أخيه البنا رأى أن رسالته صالحة .. لأجيال لم تأت! كتبت - شيماء فؤاد "أنت تكدح في أرض صخرية صلدة ، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه تتساقط وتحتاج لمن يلتقطها" ، هذا ما قاله الإمام حسن البنا لشقيقه الأصغر "جمال" ، الذي رحل عن دنيانا فجراليوم، وذلك حين رفض الإنضمام لجماعة الإخوان المسلمين ببداية تأسيسها.
ومنذ ذلك الحين، والبنا الصغير، يواجه رفاقه بآرائه الجريئة والمعارضة، التي أثارت عليه جدلا كبيرا ، كان يرى أن جماعة الإخوان مهادنة "أكثر من اللازم" مع الحكام، ورغم خلافه مع حسن البنا ، إلا إنه لم ينكر عليه "معجزته" التي مكنته من تأسيس جماعة إسلامية تمتد جذورها لربوع العالم. السطور التالية تحمل أسرارا كتبها جمال البنا بنفسه .. عن حياته .. عن أسرته وعلاقته بوالده وشقيقه الأكبر .. وعن مشوار "عقله" في كل محطات الحياة.
حسن البنا كانت علاقة جمال البنا بشقيقه الأكبر حميمة بما فيها من "جدلية" نشأت من اختلاف الطبائع بينهما، ويقارن جمال بين حياته و حياة أخوه الذى كان الأكبر و حظى بحب أبويه وتربى فى الهواء النقى بالقرية كما تمتع بصحة جيدة ، بينما على العكس عانى "جمال" من غياب كل ذلك وقد شهد صباه في حواري القاهرة . ورغم شهرة جماعة الإخوان المسلمين لم يتحمس الشقيق الأصغر للإنضمام إليها، وكون حزبه الخاص، الذي ما برح أن فشل بعد عامين من التأسيس. مع ذلك ظل حسن البنا مهتما بأمر شقيقه، ويوكل إليه مهمة متابعة مطبعة الجماعة ليكتسب منها خبرة ، وهو ما وافق عليه البنا الصغير لرغبته في أن يصير كاتبا .. وقد تحدث بعض رفاق جمال في المطبعة مع أخيه الأكبر عن أنه يترك الصلاة وينشغل بالعمل ، فكان رده : "اتركوه وشأنه". تأثر جمال بوالده الراحل أحمد حسن البنا الساعاتي، عالم الحديث، والذي خصص 35 عاما من حياته يكتب سيرة بن حنبل ، وأعجب البنا أيما إعجاب بفكر والده الذي يميل لفقه السنة وليس "فقه المذاهب" الذي يؤسس للتفرقة بين المسلمين، وكذلك صفاته العصامية، وسيعهد البنا فيما بعد بكتاب لتخليد ذكرى والده وشقيقه الأكبر باسم " خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه" جمع فيه قرابة عشرة خطابات أرسلها حسن البنا إلى والده يبدأ أولاها سنة 1926 أي قبل التخرج وآخرها سنة 1945 ، وهي خطابات شخصية جدًا ، ولكن جمال البنا وجد فيها شيئًا يستحق أن ينشر ويعلن . عن رؤية الدين لدى والد البنا وشقيقه قال : " كان الإسلام لدي الشيخ أحمد البنا و حسن البنا شيئاً غير الإسلام الشائع " إسلام المذاهب " الذى يدعو له الأزهر" ، الذى حد قوله يفرق المسلمين ، و أن الإسلام كان بعيدا عن الحياة العامة ، و على حد قوله أضفى كل منهما من فهمه للإسلام صفة الموضوعية ، والأصالة ، وإغفال الاختلافات المذهبية الصغيرة ، وإعمال العقل والفكر . كما أصدر جمال البنا كتابًا بعنوان "ما بعد الإخوان المسلمين" عرض فيه لعمل حسن البنا ، ودوره التاريخي ومواقفه وسياساته التي لا يمكن أن تفهم على حقيقتها إلا في ضوء ما بينه من ملابسات ، ودافع عنه وبرأه مما يرميه به البعض ممن لا يلم بما ألم به جمال البنا . الغريبة أن جمال البنا كان ينظر لحياة الجامعة والعمل وتكوين الأسرة كما لو كانت حياة برجوازية، وفضل أن يسير بطريق مغاير .. دروس الشقيق الأكبر انتهت علاقة جمال البنا بشقيقه الأكبر عندما اعتقل يوم 8 ديسمبر سنة 1948 ، وظل بالمعتقل حتى سنة 1950 ، فلم يحضر الأيام المأساوية الأخيرة لشقيقه ، ولا كيف استشهد ، ولا كيف خرجت جنازته لا يسير معها إلا الوالد وسيدات الأسرة ، فقد كان بعيدًا جدًا عن القاهرة .
كان الدرس الذي استفاده جمال البنا في الأيام الأخيرة له في صحبة الإمام البنا أن الداعية إما أن يكون منظمًا ، وإما أن يكون منظرًا ، وأن الجمع بينهما ينتهي بالفشل ، و أن حسن رغم قدرته التنظيمية لم يستطع ان يكون نظرية محكمة ، و رأى أن النظرية تتطلب تركيزًا تامًا قدر ما تتطلب "عمرًا" تنضج فيه "النظرية" .
فقال جمال : انعكس هذا النقص على فعالية التنظيم الإخواني باستثناء بعض الجوانب التربوية ، مع إن فكرة حسن البنا عن الإسلام كمنهج حياة كان يمكن أن تكون قاعدة لنظرية شاملة تتناول مواقف الإسلام من كل ما يعتور المجتمع أو يؤثر فيه أو عليه . وكان جمال البنا بطبيعته نقيض الإمام البنا وانتهى إلى ضرورة الاكتفاء بالتنظير ، دون أن يعني بالتنظيم ، وتعمقت هذه الفكرة في ذهنه إلى درجة جعلته يرفض تكوين مؤسسة من أي نوع تضم شمل المؤمنين بدعوة الإحياء .
أيام الصبا والد جمال البنا أسماه بجمال تيمنا بجمال الأفغانى و عندما ولد كان ضعيفًا فلم يتمكن من اللعب كباقى الأطفال ، فانطوى على نفسه ، وكان المتنفس الوحيد له هو القراءة ، فكان والده يأخذه معه وهو طفل صغير إلى مكتبته ، حافلة بالمجلات والصحف فكان يقلب فيها ويقرأها ، و فى بداية عمره قرأ بتلك المجلات عن منيرة ثابت كانت أول من دعا إلى منح المرأة حق الترشيح لمجلس النواب ، و قرأ فيها رواية عن "قمر بني إسرائيل" تصور مصر في عهد ظهور موسى و روايات أخرى مترجمة ، بالإضافة للكتابات السياسية .
وقال البنا أن والده صاحب مجلد بن حنبل كان يجلد تلك الروايات و يحتفظ بها قائلا : هذا هو أحد أسرار هذه الشخصية الفريدة ، وهي سر تأسيس ثقافي مدني وأسلوب حر سبق مرحلة المسند ، فضلاً عن سعة الأفق وانفتاح الرؤية . و قضى جمال طفولته في مكتبة والده حتى وفاته ، فعندما مرض والده فى نهاية حياته كلف جمال البنا بإتمام المسند ، و هو من اعتنى بمكتبته بعد وفاته ، وواصل طباعة أجزاء والده ال 22عن ابن حنبل كتاب " الفتح الربانى " و أوصلهم إلى 24 جزء . و ظل جمال حتى آخر حياته محتفظا بما تبقى من مجموعة والده من الكتب و المجلات التى لم تتلف من الرطوبة و كان منها مجموعة من أعداد جريدة "الإخوان المسلمين" اليومية .
التأسيس الثقافي قرأ جمال البنا فى الادب الغربى ؛ قرأ ل تولستوي وديستوفسكي وأندريه جيد وغيرهم ، وبعدها انتقل إلى الأدب الشعبي مثل ألف ليلة وليلة وذات الهمة وسيف بن ذي يزن التي أعجب . بالنسبة للشعر فإنه قرأ المعلقات وقرأ "المنتخب في أدب العرب" ، ديوان المتنبي والشوقيات بأجزائه الثلاثة . وقرأ في الأدب العربي لطه حسين والعقاد وهيكل وتوفيق الحكيم ولكنه لم يعجب بأسلوب طه حسين ولا بأسلوب العقاد ، وكان في طبع جمال البنا ككاتب عرق فني جمالي ، فأعجب بأسلوب هيكل وتوفيق الحكيم لأنه عني بالقضية الدينية . و ألم بالأدب والتاريخ الإغريقي ، وقد تجاوب مع سقراط وأفلاطون ولكنه شعر بالعزوف عن أرسطو . ففي الخمسينات والستينات كان يقرأ كتابًا عربيًا كل يوم وكتابًا إنجليزيًا كل يومين أو ثلاثة . وخلال هذا الطواف الثقافي وقف جمال البنا أمام فئتين هما النساء والعمال وكانتا أكبر فئات المستضعفين والمستذلين ، فدرس حركة الفيمنزم في بريطانيا واهتم بقضية المراة و العمال كثيرا و خصص لهم قدر كبير من كتباته . من هنا توق جمال أن يكون كاتبًا ، وأن يجعل من الكلمة المكتوبة أداة كفاحه ودعوته وشجعته ، و تحدث جمال على ان قدرته فى الكتابة فاقت قدرته كمحاور و خطيب لأنه ليس لديه قبول و لا سرعة بديهة .
وكان يقول إن أزمته هي : " أنه كاتب في شعب لا يقرأ " ، و لكنه ظل يعتقد أن الكتاب يخلد للأجيال القادمة .
دين وحياة
قال جمال انه فى دعوته يرفض المهادنة ، و أن يتخلى قيد أنملة عما يؤمن به فانتقد فقهاء التقليد ، كما انتقد أدعياء التنوير ، فخسر الفريقين ، وكان هذا الموقف سببًا لأن تتجاهله كل المعسكرات سواء في كتاباتها أو في نشاطاتها لأنه سبق وهاجمها ، تيار اليسار والأكاديميين ، والمؤسسة الدينية ، والحكومة والنظام القائم ، فلا يشيرون إليه في كتاباتهم ، ولا يدعونه في اجتماعاتهم .
ولم يأس جمال البنا لهذا التجاهل ، رأى إنه لم يكن يعمل لهذا الجيل الذي رأى أنه لا يمكن أن يحمل رسالته ، وإنما لجيل آخر ، وقد لا يحدث هذا قبل خمسين سنة أو أكثر عندما "يستكشف" جمال البنا ، ويتهيأ المناخ لتقبل آراءه التي رفضتها الأجيال السابقة ، وعزاؤه أنه وفر عليها البحث عن نظرية ما كان يمكن لغيره أن يصل إليها بحكم الصفات الخاصة التي توفرت له ، من أجل هذا كان ثمرة عمل جمال البنا مؤجلة ، أما ثمرة عمل حسن البنا فكانت ماثلة .