جدي رجل تسعيني. مزارع عشق ارضه، فهي محبوبته التي عشقته وعشقها.
يحرثها، ويسقيها بالماء مخلوط بعرق جبينه، معجونة بتعبه، فكانت تعطيه احلى ثمر، واينع فاكهة. خالط الناس بمختلف مشاربهم، وطوائفهم، عرفهم وعرفوه، وادرك خيوط النسيج السوري بواقعية دون زيف اوكلمات ونظريات فلسفية بعيدة عن الواقع.
مع بداية الثورة، وكونه لم يعد يسمع جيدا، فقد اخبره احدهم بأمرين:
-- الامر الاول: قال الشاب: ياجدي لقد انطلقت المظاهرات نصرة لدرعا، فأجاب ذلك الرجل التسعيني:"هدول ما بخصلوا لما يخلصوا"، اي انهم سيحاربون حتى النهاية، وسيعتبرونها معركة وجود. فسأله ذلك الشخص، ولماذا سيفعلون ذلك؟، فأجاب: من سيستقبل هؤلاء كلاجئين، فكل دول الجوار تلفظهم، لا وتأمن مكرهم.
قد يكون جدي قد نسي في تلك اللحظة السريعة ان الاستيطان الاسرائيلي يجاورنا، وقد عرض عليهم اللجوء عنده. قد يكون سبب عرض اللجوء هو ان اليهود يعرفون ان عقيدة النصيريين تؤمن بالتناسخ، لذا يريدون تكوين الفرقة الاشد اجراما في جيشهم المجرم نظرا لحقدهم وعدوانيتهم نحو الامة وحضارتها.
ففي عرف النصيريين، قد يكون التناسخ بمفهومهم انهم عندما يموتون يعودون قرودا، ثم عندما تموت القرود تعود قطاع طرق، في متلازمة ما بين قرد وقاطع طريق حسب مفهومهم العقيدي –ربما-. والقرد لا يعرف التنقل الا وعورته مكشوفة، وكذلك هم مفضوحون مكشوفون تتحدث كل نكسات الامة عن خياناتهم.
-- الامر الثاني: قال الشاب: يا جدي انهم يهتفون الان في الشارع "الشعب يريد اسقاط النظام"، فسأل "يقولون "يسقط؟!!!"، فأجابه نعم، فرد ذلك التسعيني "لقد سقط، لا، من يقول يسقط، لا يعود الى بيته حتى يسقط".
فذانك الرجل التسعيني قرأ مع اولى نبضات الثورة حقيقتين، كانتا جليتين له كشمس ساطعة في كبد السماء، وهما: ان النظام سيقاتل حتى الفناء، وان الشعب لن يعود حتى يسقط النظام.
بينما كثير ممن يعتبرون انفسهم "مثقفين"، و"واعين"، قد بحثوا منذ اللحظات الاولى، واستمروا بالبحث عن حلول سياسية وهمية مع النظام، او بقايا النظام، او اكسسواراته من هيئة التنسيق الى "الذين لم تتلوث ايديهم بالدماء".
الغرب، ولقراءته الواقعية ايضا، قد ادرك ما يعرفه جدي، لذا يترك البلد كي يستمر تدميره، ويلهي الحراك بشريط غنائي خافل من الكلمات الجميلة مع موسيقى صاخبة على انغام القصف والذبح، والخبز المر.
الغرب افصح، انه مستعجب من جدية النصرة، واحرار الشام، وكتائب الجيش الحر البطلة وغيرهم، ومستغرب اكثر من سير خطهم البياني المتصاعد نحو الحسم، لذا فهو قلق، وقلق اكثر -كما صرح علنا- من حصول الثوار على اسلحة متنوعة ونوعية من القواعد الجوية التي استرجعوها من محتليها.
الغرب يريد مراوحة تفضي الى اشياء عدة منها:
-- تدمير البنية التحتية والسكنية.
-- تدمير النسيج الاجتماعي املا في تحويله الى حرب اهلية طويلة المدى.
-- كسر ارادة الثورة عبر القتل والتجويع والتشريد، أملا في الوصول الى فرض حلول تضمن امن اسرائيل، وبقاء خرائط المنطقة كما هي.
-- افشال الثورة عبر تنفيس مطالبها لتؤول الى مخرجات شكلية، مما يؤدي الى جعلها عبرة لكل الشعوب التي تتطلع الى الحرية والنحو الى النهضة.
-- محاولة ضمان دخول دولية تضمن تحول سوريا الى كانتونات مقطعة، ثم دول مجزأة بعد عقد او عقود.
رغم قراءة الغرب لطرفي الصراع، وسعيه الى تجييره لمصلحته، إلا انني ما زلت مؤمنا بقراءة جدي وقراءة كل سوري على الارض، بلا ربطات عنق، او مؤتمرات وهي ان النظام يفكر فقط ب"الاسد او نحرق البلد"، والثورة تؤمن لا رجوع حتى يسقط المخلوع وحل جيشه وامنه المجرمين.