حتى لا تكون الثورة على الفساد والظلم مجرد «هوجة»، أو تمرداً وقتياً، أو فوضى خلاقة، أو...، أو...، وحتى تكون الثورة حرارة مُستمرة في الجسد، وفكرة دائمة في العقل، ونبضاً مُتصلاً في الضمير، وإحساساً حياً في الأعصاب.. يجب أن تُستنبت الثورة وأن تُنمى كما يُنمى كل ما سبق، عبر تربية رشيدة وتعليم صحيح في المؤسسات التربوية والدينية والتثقيفية، لا أن يكون الأمر مجرد ثرثرة وجدال عقيم بين تيارات متصارعة على مناطق النفوذ كصنيع سُكَّان الغابة!.
إنّ فكرة إثبات الذات، وانتزاع الحق، والرغبة في شغل مساحة من الزمان والمكان والاهتمام، فطرة تولد يوم مولد الإنسان، وما البكاء والصراخ إلا وسيلة الطفل للإعلان عن حقه في الطعام والشراب والنوم والنظافة والاعتناء، إذ لا يُمكن لرضيع أن يصمت وشيء من ذلك ينقصه، فمن الذي علَّمه ألا يسكت عن حقه وعمره في الدنيا ساعات وأيام معدودة؟!.. إنه الله الذي فطره على طلب الحياة بطلب الحق والسعي إليه عبر وسائله المتاحة وقدراته المُهيأة!.
هذه الفطرة الربانية خَلقٌ من خلق الله تعالى في التركيبة المادية والروحية للإنسان، وهي تحتاج كالبدن والروح إلى غذاء وسقاء، ورعاية وعناية، ليستقيم نموها ويتوازى مع نمو الأعضاء والجوارح، فيشبُّ المرء عفيَّاً فتيَّاً في طلب ما يستحق وفقاً لشرع الحق بلا تردد ولا توقف ولا خوف، مؤمناً بأن ذاته الإنسانية لن تؤدي دورها في الحياة كما أمر الله إلا بالحصول على نصيبها من رزق الله، فإن جاء عبر عدل فبها ونعمة، وإلا استيقظت فطرة الثورة لجلب الحقوق وإعادة التوازن وفرض ميزان العدل!.
بالنظر إلى واقعنا التربوي والتوعوي و التعليمي و التثقيفي، نجد أنفسنا أمام جريمة تُرتكب في حق الأجيال، حين نضع مطالبهم المَشروعة في البيت والمدرسة والمسجد والشارع تحت مِقصلة الرفض المُستمر، بزعم أن الصغير لا يطلب ولا يعترض ولا يمتعض، بل ونعتبر ذلك قلة أدب وخروج عن العادات والتقاليد المتوارثة.. وهنا نقتل من حيث لا ندري نبتة الثورة العاقلة ذات الخط الواضح في نفوس النشء، فتتحول في المستقبل إما إلى جبن وخنوع وهزيمة داخلية، أو إلى بلطجة وسطو وإفساد في الأرض، فيقع المجتمع برمته بين دفتي الإفراط أو التفريط، فلا يعرف سبيلاً مستقيماً يمضي فيه نحو ما يستحق!.
ثورة 25 يناير حرَّكها شباب أطهار، آمنوا بأن الثورة على الظلم والفساد فطرة لا تنفصل عن الإنسان السوي، بعد أن تربوا - في غفلة عن عيون الهدم والقمع - على معنى الحرية ومشتقاتها الرفيفة.. كانوا هم البداية المتألقة المتأنقة التي استدعت بقوتها وصدقها وفوداً كبرى من شرائح تكيفت لزمن طويل مع مرارة الواقع، لأنها تربت في مؤسسات الدولة على ألا تنتفض أو تثور أو تغضب، وبذا تاه الثوار الحقيقيون أرباب الفطرة الثورية المُتقدة بين جموع من ثوار مُقلدون تجرءوا بجرأة من أشعلوا فتيل الثورة.. الفئة المُقلِّدة حدت كثيراً من انطلاق الثورة نحو مراميها العادلة، بل شكَّل كثير من أهل الكلمة والفكر والرأي «أو من نظنهم كذلك» عبئاً على كاهل الثورة، لأن فطرتهم الثورية تعرضت لعمليات تشويه عبر عقود طويلة، فلم يحسنوا التعامل مع المستجد الثوري بما يستحق!.
أفرزت الثورة صنف ثالث، وهم أهل البلطجة والهمجيون وقُطَّاع الطرق.. وهؤلاء لا يتحملون الوزر وحدهم، ولكن يتحمله مجتمع تبني على مدار عقود طرقاً بشعة في التنشئة عبر دور التعليم والإعلام وغيرها.. هؤلاء خرجوا من جحورهم حين واتتهم الفرصة ليعبروا عن أنفسهم بالطريقة التي تعلموها في الشوارع وفي أوكار السوء، بل ومن خلال وسائل الإعلام!.
إذن، ما العلاج؟!.
ينطلق العلاج - حسب رؤيتي المتواضعة - من شقين.. شق عاجل، وشق طويل المدى..
أما عن الأول: فلابد من تطهير عاجل لمنصات الإعلام ومنابر الكلمة، فالكلمة أخطر من الرصاصة، ولابد من الضرب بيد من حديد على أيدي المفسدين والمُخرِّبين وقُطَّاع الطرق، فلا سبيل لزجرهم والحد من خطرهم إلا بالردع والقوة، وذلك كخطوة عاجلة لإعادة فطرة الثورة الحقيقية إلى قواعدها عبر الإعلام والمساجد والشوارع وتفعيل القانون.
وأما عن الثاني وهو الأهم: فلا بد من بناء نظام تربوي تعليمي متكامل نابع من ديننا ومن سيرة سلفنا ومن عاداتنا وتقاليدنا الجميلة، يهدف إلى إعداد جيل يؤمن بالله وبالحق، ويسعى دائماً إلى إقراره وإعلائه، ولا يخشى فيه لومة لائم.
بقيت في الجعبة مقالات في هذا السياق، أطرحها تباعاً إن شاء الله.