الفكرة كالطفل الوليد، تحتاج إلى رقة في التعامل، ودقة في التوجيه، وتلطُّفاً في التقويم، وإلا ماتت أو شُلَّتْ أو انحرفت..! نرتكبُ في حق عقولنا جريمة لا تغتفر حين نستأصل أفكارها الوليدة بسيف المُصادرة، دون أن نمنح أنفسنا بضع لحظات للتأمل والمناقشة والحوار، فنقتل دون أن نشعر آلة إنتاج الأفكار بدلاً من أن نُحَسِّن ونجود من طبيعة المادة الخام التي تخضع لعمليات التشغيل داخل هذه الآلة، مثل التعليم والتثقيف والتدريب!.
نعم، إن المجتمع بمؤسساته وهيئاته هو المسؤول عن طبيعة الفكرة التي يترجمها لسان أو قلم من نبض عقل تم تخطيطه وهندسته في أروقته التربوية والتعليمية والتثقيفية والتدريبية، إذ على حسب هذا التأهيل تتكون نويات الأفكار، ثم تتلاقح فيما بينها لتخرج فكرة جديدة متأثرة ومتفاعلة مع المحيط والبيئة والثقافة وطبيعة التربية، وربما كانت هذه الفكرة غريبة فنظن أنها رجس من عمل الشيطان، متناسين أن الأساس الذي انطلقت منه قد وضعته أيدينا!.
إن الفكرة عمل لبرمجة عقلية، وليست عملاً عشوائياً بزغ من لا شيء، فلا شيء ينتج من لا شيء، وبالتالي يجب أن يتوفر لدينا قدر من الشجاعة لتحمل المسئولية عن برمجة عقل الجيل بأكواد وجمل واتجاهات، تعمل حين تنشط العقول حول موضوع ما، لتنتج تنفيذاً حسب شفرتها وبرمجتها، فإذا جاء التنفيذ على غير رغبات الأسرة والشارع والمدرسة والجامعة فلا نلومنَّ إلا من وضع للعقول برنامج عملها.
يعترينا العجب وتنتابنا الدهشة ونحن نسمع ونشاهد كلمات وأفكار وسلوكيات الجيل الحالي، ضاربين كفاً بكفٍّ، مُتحسرين على الماضي بأجياله المؤدبة الخجولة، وكأننا لم نشارك ولو بنصيب في بناء هذا الجيل بوضعه الراهن، وكأن آخرين قد ربوهم وعلموهم ثم دفعوا بهم على غفلة منا إلى واقعنا، ذلك ما نتمحك به حين نتكلم عن الثقافات العابرة للحدود عبر وسائل الاتصال الحديثة، وهو عذر أقبح من ذنب لأننا لم نرشح ولم نغربل ولم نرشد!.
ثم من ذا الذي جعل الثقافات الوافدة أكثر بريقاً وجاذبية من ثقافتنا؟.. إنه الفراغ الذي تركناه في عقول أولادنا لتسبح فيه كل سابحة ووافدة، أو هو العجز عن تطوير آليات عرض ثقافتنا وهويتنا بطريقة عصرية لافتة، فكانت النتيجة أن رسبنا بشدة في ميدان المنافسة حين لهث شبابنا وراء كل قادم ووافد من الأفكار والثقافات.
إنّ الأمة في حاجة ماسة إلى صيغة ما تعيد لها هويتها وشخصيتها في ممارسات شبابها.