رحل عن دنيانا الدكتور ميلاد حنا فى وقت يحتاج الوطن اليه ، فقد كان مخزونا وطنيا وثقافيا من القيم النبيلة ومنها ما حمله من عمق وعبق العلاقة الطيبة والاصيلة بين المسلمين والاقباط عن فهم ووعى لخصوصية وخصائص الشخصية المصرية ، وشعور صادق بحب الوطن فبذل كل فكره وجهده لتحقيق الوئام فى مواجهة الفتنة والتى فى العقود الاخيرة كلما خمدت اشتعلت ثانية لاسباب داخلية وخارجية كما كان واحدا من اصدق المنحازين لفقراء الشعب بحكم تخصصه وانسانيته فى مجال من اهم المجالات وهو الاسكان اى المأوى والاستقرار
وكان شجاعا فى قرارته حتى دفع ثمنها الابتعاد عن ارفع المناصب التى يلهث البعض وراءها ، والابتعاد عن مسئولين كبار يلهث البعض لنيل رضائهم ، ودافع عن قناعته حتى لو كان الثمن محاربته فى رزقه او اعتقاله
ففى مجال الوحدة الوطنية عرف الاسس التاريخية والخصوصية التى تجمع ابناء مصر فقدمها فى معاملاته ومقالاته ومحاضراته وكتبه وخطبه ، اكد على المشاركة الوطنية للاقباط منذ ثورة 1919 حتى ثورة 1952 كشفت عن الدور الوطنى للاقباط فى مصر فاختفت الفتنة الطائفية تماما ، وحتى فى عهد عبد الناصر كان النهج بما يحمله من مساواة فى الوظائف وقواعد القبول بالجماعات وغيرها وكذلك العلاقة الطيبة بين عبد الناصر والبابا كرليس اثارت الهدوء والرضاء لدى الاقباط عن طيب خاطر ، وفى عهد السادات شعر مبكرا بالخطر وبوادر الفتنة فنادى بضرورة تشكيل لجان وجمعيات للوفاق الوطنى ، وللاسف من اجل مواقفه تم اعتقاله فى احداث سبتمبر 1981
وفى عهد مبارك قدم مساهمات فكرية لدعم الوحدة الوطنية للتصدى لخطر التطرف والارهاب المدفوع من الداخل واكثر منه من الخارج ، فقدم بحوثا ومقالات نشرها فى كبريات الصحف الحكومية والمعارضة ، اضافه الى مؤلفاته ومنها كتاب الاعمدة السبعة للشخصية المصرية وكتاب مصر لكل المصريين وغيرهما
اما عن انحيازه للفقراء وتوفير مسكن كريم فقد كان هذا من اهم ما يشغله ، فقد كان يشعر بصدق ان فقراء مصر هم جوهرة الوطن ، فوقف بجانبهم وعمل على راحتهم من خلال افكاره ومساهماته فى توفير المسكن المناسب لهم انسانيا واقتصاديا ، وايضا حماية الثروة العقارية والتى هى رصيد لاغلى ثروات الوطن
وفى سبيل مناصرة الفقراء فى هذا المجال خاض معارك عديدة ، فقاوم بدايات الرأسمالية فى الاسكان ، فاختلف مع م . عثمان احمد عثمان دون ان يعبأ بما له من سلطة وسلطان خاصة بعلاقته ومصهارته للرئيس السادات ، حتى لو كان الثمن محاربته فى رزقه من خلال تعليمات بعدم اسناد اعمال شركات المقاولات الحكومية لمكتبه الهندسى وهو ما ادى الى دفاع عدد من كبار الكتاب الوطنيين عنه ومنهم عبد الرحمن الشرقاوى ويوسف ادريس وصلاح حافظ
وفى هذا المجال الانسانى والاجتماعى كانت صداقته مع الوزراء اصحاب نظافة اليد ومنهم م . حسب الله الكفراوى والذى احتفى به واستعان باراءه ، وقدم د . ميلاد حنا مشروعا قوميا لحماية الثروة العقارية فى منتصف الثنمانينيات ولكنه صادف وقتها رفض من مجلس الشعب للمشروع ، ولو اخذوا به لانقذ مصر من مسلسل مشكلات العمارات والانهيارات المستمرة حتى اليوم
لقد كان تاريخه كله شعلة نشاط ومشاركة وطنية وايثار وانحياز كامل للوطن ، فعند حصوله على الدكتوراه فى اوائل الخمسنيات اثر العودة الى الوطن على البقاء بالغربة رغم ما بها من مغريات مادية ، ووجد فى احضان وطنه الطمأنية رغم الصعوبات ، وكان يرى ان ما يقوم بتدريسه بكلية الهندسة هو اشبه بسقاء ورى لبراعم وطنية نبيلة فى طريقها لبناء الوطن بعد استعمار طويل ، وبعد ان استقر فى العمل بمكتبه الهندسى الخاص لم يفتر شعوره بالقضايا الوطنية ، وحتى بعد نكسة 1967 شارك الطلاب المظاهرات وكأنه طالبا معهم ، ولم يهدأله بال حتى تحقق نصر اكتوبر ، واستمرت مساهماته فى القضايا الوطنية وكان شجاعا فى رايه حتى انه انتقد وقت مبارك مبادرة الاسكندرية ( عام 2004 ) وقال انه مجرد حيلة من الرئيس مبارك لتخفيف الضغوط الامريكية عليه
لم يسع الى المناصب بل سعت المناصب اليه ورفضها ، فقد كان يفضل الايثار ويرى ان العطاء الصادق يمكن تقديمه من اى موقع ، فرفض ان يكون وزيرا للاسكان وقت عبد الناصر او يسعى اليه وقت مبارك ، كما قدم استقالته من لجنة الاسكان بمجلس الشعب ، وحتى الاحزاب السياسية رغم علاقته الطيبة بكل رجالها رفضا ارفع المواقع بها ومنها نائب رئيس حزب التجمع وسكرتير عام حزب الوفد
فقد كانت اهتماماته مركزة على الجوهر ، فكان جل اهتماماته نشر الوعى الوطنى ، وترسيخ الوحدة الوطنية ، ومناصرته للفقراء والبسطاء من ابناء الشعب فى حل مشكلة الاسكان ، وغيرها من القضايا الوطنية والانسانية ، وهى قضايا مازال الوطن فى أمس الحاجة الى مناصرتها