كان يحدونا الأمل في أن يكون دخول الثوار الليبيين قلعة باب العزيزية، تتويجاً للسيطرة الكاملة على العاصمة طرابلس وانتهاء حكم الطاغية القذافي وعائلته إلى الأبد، ليتولى الليبيون زمام أمرهم بأنفسهم ويرسخون سيادة الأمن والطمأنينة التي افتقدوها لأكثر من أربعين عاماً، وبخاصة في الشهور الأخيرة التي عانوا فيها من الخوف والتهجير والقلق على مصيرهم. لكن كل المؤشرات تدل على أن القذافي المهووس بحب السلطة، لن يتخلى هو وأبناؤه عما باتوا يعتقدون بأنه حق مقدس لهم، وهو وجوب خضوع الشعب الليبي لحكمهم الاستبدادي، وتسليم المجتمع الدولي بهذا الواقع. ويبدو أن القذافي كان يعني ذلك حين قال في كلمته الأخيرة التي وجهها من الإذاعة المحلية بطرابلس فور سقوط قلعة باب العزيزية، والتي قال فيها أن انسحابه من مجمع العزيزية كان "تحركا تكتيكيا" .. كما تعهد بمقاومة ما أسماه بالعدوان بكل قوة .. "حتى النصر أو الاستشهاد". وهذا يدعونا للتساول عن الخطوات التالية التي سيتخذها القذافي في ضوء ما صرح به هو ونجله سيف الإسلام، عن أن ما يحدث في ليبيا هو محاولة من الغرب لسرقة ليبيا ونهب ثرواتها النفطية، واعتقاده بأن الشعب الليبي ما زال على ولائه وحبه له. وتنحصر هذه الخطوات في خيارات أربعة: الأول: الهروب من ليبيا إلى إحدى الدول المجاورة، أو الاختفاء عن الأعين في مكان ناءٍ من الصحراء الليبية. وقد أشيع في الآونة الأخيرة أن ست سيارات مرسيدس مصفحة، عبرت الحدود إلى الجزائر تحت حماية "الطوارق". ويقال أيضاً أن هذه السيارات كانت تقل القذافي وعائلته وكبار المسئولين في نظامه. الأخذ بهذا الخيار من قبل القذافي قد يكون صحيحاً .. لكن ليس من الصحيح الاعتقاد بأن هروبة للجزائر (إذا صح) هو من قبيل الاستسلام، وإنما سيكون- أغلب الظن- خطوة (مرحلية) تتناسب والظروف التي تمر بها ليبيا بعد سيطرة الثوار على طرابلس العاصمة، ثم يعود بعدها- متسللاً- كي يحاول استعادة السلطة من يد الثوار. الثاني- أن يبقى مختفيا في مكان آمن في مدينة طرابلس العاصمة، إذا ما تيقن بأن لديه من القوة ما يستطيع بها إشاعة الفوضى في المدينة وأن سكانها ما زالوا على ولائهم له!!. ومما يبرر طرح هذا الاحتمال أن فلول الكتائب التابعة له، بقيت تطلق النار في بعض أحياء المدينة لنحو يومين برغم قيام الثوار بملاحقتهم، ما أشاع جواً من الشعور بالقلق واضطراب الأمن في المدينة. غير أن هذا الخيار لم يعد ملاذاً آمناً للقذافي، في ضوء ما تردد من أنباء عن نجاح الثوار في تمشيط أحياء المدينة والقضاء على فلول الكتائب فيها. فبعد يومين من الاستيلاء على مقره في قلعة العزيزية، تمكن الثوار من طرد الكتائب من منطقة "بوسليم" التي كانت تعد آخر معقل لهم في مدينة طرابلس. زد على ذلك أن بقاءه في طرابلس، وقيام كتائبه بإشاعة الخوف والقلق بين سكانها بإطلاقهم القذائف والرصاص على بعض أحيائها، يعنى بالنسبة للثوار فشهلم في إسقاط النظام، ما يجعل من الاعتراف بالمجلس الانتقالي كممثل وحيد للشعب الليبي- سواء على مستوى ليبيا أو المستوى الدولي- أمراً قابلاً للنقاش، وهذا ما لن يقبل به الثوار ولا حلف الناتو. الثالث: أن يلجأ لمدينة سيرت على الساحل الليبي وذلك لسببين: أولهما أن قبيلة "القذاذفة" التي ينتمي إليها تتمركز في هذه المدينة، والثانية الاعتقاد بوجود قواعد عسكرية في محيطها تتوافر فيها أعداد كبيرة من الدبابات والآليات المدرعة ومنصات لإطلاق صواريخ سكود. ومن المعروف أن هذه المدينة لم يبذل الثوار محاولة مكثفة للاستيلاء عليها منذ بداية الثورة نظراً للتواجد الكثيف لقوات الكتائب فيها. وتجري الآن مفاوضات بين وجهاء المدينة وشيوخ القبائل الذين يعيشون فيها وفي محيطها من ناحية وبين الثوار من ناحية أخرى، من أجل السماح للثوار بدخولها بسلام تجنباً لسفك الدماء. غير أن نجاح هذه المفاوضات أو فشلها يخضع لأمرين، أولهما: أن يكون القذافي قد لجأ بالفعل لمدينة سيرت مع الكتائب التي تراجعت نحوها بعيد دخول الثوار مدينة طرابلس. وفي هذه الحالة من غير المتوقع أن تنجح المفاوضات، إذا ما نجح القذافي وكتائبه في السيطرة على زمام الأمور في المدينة. الثاني: أن يقبل أهل المدينة بدخول الثوار إليها وتسلمها رغم أنف القذافي، وأغلب الظن أن وجهاء المدينة- في هذه الحالة- لن يسلموه للثوار، بل سيقومون بتهريبه لمكان آمن. الرابع: أن يقوم القذافي بالاختفاء في أماكن يكون قد أعدها مسبقاً، لمواجهة أي انقلاب عسكري أو ثورة شعبية محتملة ضد نظامه كالتي يعيشها الآن. فهو- كمريض بحب العظمة ومهووس بالحكم- لا بد وأنه وضع هذا الخيار في الاعتبار. فمن المنطقي والحال هذه أن يلجأ لأماكن في عمق الصحراء الليبية قرب مدن يعتقد أنها أكثر أمناً بالنسبة له، وتدين له "عشائريا على الأقل" بالولاء، مثل الجفرة وسبها وفزان. قد يكون هذا الخيار هو الأكثر قبولاً لدى القذافي، إذا ما اعتقد أنه سيعيده للسلطة، وذلك لأسباب من أظهرها: 1- أن المسافات الطويلة التي تفصل بين تلك الأماكن النائية وبين الساحل الليبي الذي يتواجد فيه العمران بكثافة، من شأنها أن تؤمن له الوقت الكافي كي يتكيف مع الأوضاع الجديدة في ليبيا، استعدادا للعمل على استعادة السلطة من يد الثوار. 2- من المؤكد أن طول تلك المسافات، سوف يستنفذ من الثوار وقتاً طويلاً وجهداً مضنيا، حين يقررون ملاحقته والقبض عليه وتدمير ما تبقى لديه من قوات، وهذا أمر حاسم بالنسبة لضمان نجاح الثورة وكفالة استقرار الأوضاع في ليبيا. 3- من المؤكد أن القذافي عمل على بناء قواعد عسكرية مزودة بأفضل الأسلحة التي حصل عليها خلال سنوات حكمه، وذلك تحسباً لوقوعه في وضع كالذي هو فيه الآن. والدليل على ذلك قيام الطيران الحربي لحلف الناتو بقصف قواعد عسكرية في سبها والجفرة وغيرها من القواعد التي شيدها القذافي في عمق الصحراء الليبية. 4- ما يزيد من تفضيل القذافي لهذا الخيار، ما يقال عن أن لدية كميات كبيرة من الذهب تُقوَّم بمليارات الدولارات، فضلاً عن الأموال السائلة التي كان يحتفظ بها. فلو صح هذا القول، فسوف يكون عونا كبيرا له على مقاومة الثوار ومحاولة استعادة السلطة. 5- ليس من شك أن رفض الاتحاد الأفريقي الذي عقد مؤخراً في إثيوبيا الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل شرعي ووحيد لليبيا، أعطى شحنة معنوية للقذافي وأتباعه من شأنها أن تشجعه على الاستمرار في اعتقاده بأنه محبوب لدى دول العالم الثالث وبخاصة الأفريقية منها، إضافة لاعتقاده الراسخ بأن الليبيين ما زالوا يعتبرونه الأب الروحي لليبيا. غير أن هذه الخيارات تخضع- في مجملها- لتصرفات القذافي وقراراته، والتي تخضع- هي الأخرى- لتقويمات خاطئة صادرة عن شخص مريض بشعور العظمة والاستعلاء ومهووس بحب السلطة. لذا فمن الطبيعي أن يتوقع المرء اختيار القذافي لبعض من هذه الخيارات وخيارات أخرى ليست في الحسبان. غير أن الأمر المؤكد أن الناتو سيعمل جاهداً على استقرار الأوضاع في ليبيا حتى يتسنى له الحصول على فواتير الحرب التي ساهم بها في إسقاط نظام القذافي. لكن ينبغي أن نتحسب من وقوع خلافات بين القبائل والعشائر الليبية حول مدى تمثيلها في النظام الجديد .. لكن هذه الخلافات لن تؤدي- أغلب الظن- إلى حرب أهلية كما يحاول البعض أن يشيع.