يحتم الصراع الخفي الدائر ألان بيننا وبين العدو الصهيوني فتح الملفات القديمة والكشف عن الجرائم التي ارتكبها طوال السنوات الماضية حتى لا يظن البعض ان إطلاق النار علي الضباط والجنود المصريين علي الحدود مؤخراً كان خطئاً غير مقصود كما يزعم الإعلام الإسرائيلي وان الأسف او الاعتذار لا يكفيان لرد الاعتبار للشهداء وإنما الثار لدمائهم هو القصاص العادل فما حدث منذ أيام تكرر كثيراً فى الماضي و غض النظام السابق قبل الثورة الطرف عنه فأدي التواطؤ إلي مزيد من الجرائم كانت إستكمالا لسجل حافل بالاعتداءات . فى عام 2005 نشرت صحيفة معاريف اعترافات غربان الصهيونية بارتكاب جريمة قتل الأسري المصريين فى حرب 67 . فقد أكدت الصحيفة علي لسان كبير القادة الذي اشرف علي تنفيذ المذبحة عدم اكتراثه بالأمر واستعداده لتكرار ما حدث لو عادت الأيام وأتيحت له نفس الفرصة فى تحد لإرادة الأمة ومشاعر الشعوب العربية ، وبرغم ما قد يفهم من ان الفيلم الوثائقي الذي تضمن مشاهد الإبادة الجماعية يحمل نوعاً من الإدانة لهذا السلوك الوحشي ، إلا ان ذلك لا يقلل من حجم الجريمة العسكرية التي لا تسقط بالتقادم ولا تذهب إلي حيث أول المأولون من ان الجنود والضباط المصريين لم يكونوا أسري لحظة إطلاق الرصاص عليهم ولكنهم كانوا يحملون السلاح واستشهدوا وهم يقاتلون فى ميدان الشرف والكرامة ، وهو قول الحق الذي أريد به باطل ، الهدف ليس إصباغ البطولة علي المقاتل المصري وإنما تضييع حقه وإهدار دمه المعلق فى رقبة الأعداء ، إذ لا يمثل الخروج بالقضية الوطنية عن حيزها القانوني إلا قلب الحقائق وتقديم المبررات لتهوين الفجيعة وإعطاء الفرصة للهروب من المواجهة ، وهذه مهمة يقوم بها عادة وهذه مهمة قام بها المتواطئون الذين لم يرون فى الفيلم الوثائقي الصهيوني والاعتراف الرسمي بالقتل دليلا كافيا للإدانة ويعتبرون المطالبة بالثار مزايدة ، لذا فنحن نقدم لهم وللتاريخ دليلا آخر كي يكون القصاص مطلبا عادلا حقاً ..الدليل السينمائي يضيف العديد من أوجة البشاعة للعدو ويؤكد المذبحة التي ارتكبت فى دير البلح وغزة ورفح وخان يونس علي مرآي ومسمع من شهود عيان وثقت شهاداتهم بالفيلم التسجيلي (هم فى الذاكرة) للسينارست والمخرج الفلسطيني سعود مهنا ، وهو إنتاج عام 2000 عُرض لأول مرة بمدينة غزة عرضا خاصاً حضرة نقاد وصحفيون فلسطينيون وعرب آنذاك ثم أعيد عرضه بمركز الثقافة السينمائية بالقاهرة ، الفيلم لأهميته يستدعي ان نعيد قراءته علي ضوء ما يستجد من أحداث ويتضارب من أقوال حول ما ورد بالفيلم الصهيوني من مشاهد برغم وضوحها وضوح الشمس واليقين المتضمن بالصور الوثائقية التي لا تدع مجالا للشك كذلك اليقين الناطق فى عيون الأبطال ألاثني عشر ، شهود الملحمة الإنسانية التاريخية المأساوية . يفتح الكدر في المشهد الأول بالفيلم الفلسطيني علي صباح مشرق وصوت التكبيرات الجماعية فى صلاة العيد للإيحاء بمعنيين متقاربين ، الأول يتماشي مع المناسبة الدينية وحالة الابتهال والتضرع التي تبدوا علي المصلين ، والثاني يدعوا إلي صلاة الغائب التي تؤدي عادة علي أرواح الشهداء كمفتتح للاستدعاء الحدث التاريخي وبعثه من جديد إلي بؤرة الذكري خاصة ان المشهد التالي لمشهد الصلاة ينقلنا إلي مقابر الشهداء لنطالع أسمائهم محفورة علي الشواهد الرخامية يحوطها عدد من الشيوخ والشباب ورجال فى أواسط العمر يقرأون الفاتحة علي أهل القبور وسكانها ، فيما يبدا سرد القصة البطولية للأسري المصريين علي لسان الشيخ حسن ابو جابر مستعرضا لأحفاده مقتطفات من سير الأبطال الذين عايشهم لشهور طويلة وشاركهم طعامهم وشرابهم وسكن معهم الخنادق وحمل البنادق ، مختصا بالذكر كبار الضباط الذين اقترب منهم ولمس فيهم العزة والكرامة والشموخ ، وبينما يستمر الحكي ويستطرد الشيخ فى الإيضاح تتعالي أصوات النغم الفلسطيني الحزين المنبعث من آلتي العود والناي كأنه التشكيل الإضافي للسيمفونية السينمائية المعزوفة علي أطلال التاريخ القديم الذي ابتعد المخرج سعود مهنا به قليلا عن أحداث النكسة كأنه يروي الحكاية من بدايتها الأولي فى عام 48 مذكراً إيانا من خلال الصور الأرشيفية ببطولات الضباط والفدائيين الأشاوس "جمال عبد العناصر – محمد نجيب – زكريا محي الدين - احمد عبد العزيز – مصطفي حافظ " مستلهماً روح النضال ليدلل علي ان نكسة 67 لم تكن الحلقة الفارقة ولا النهائية فى حياة العسكرية المصرية ، وإنما لا تعدوا أكثر من كبوة لجواد أصيل نهض من عثرته ليشب واثبا اقوي مما كان فيحتل موقع الصدارة فى ذاكرة الشعوب كأبرز الرموز الوطنية فى العصر الحديث طبقا لقياسات الرأي التي وردت فى سياق الحديث العفوي للشيخ صالح العزة احد رواة المذبحة وشهودها والذي انتقلت معه الكاميرا إلي شجرة الجميز العتيقة بخان يونس ، تلك التي خيم ظلها الظليل علي الجنود البواسل بعد ان نفدت ذخيرتهم وباتوا أياماً وليالي بلا طعام او شراب فاضطروا إلي الاستسلام ولكن رصاص العدو لم يرحمهم واخترق ظهورهم من الخلف فنالوا الشهادة محتسبين أجرهم عند الله .. الشيح صالح العزة لم يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء حين تراءت له هذه اللحظات فعجز عن مواصلة الحديث تاركاً الفرصة إلي الشيخ خلف ابو حجاج الرجل الذي أتي بما لم يكن معلوماً لدينا ، فقد كشف النقاب عن أكثر من جريمة ارتكبها الجنود الصهاينة فى حق الأسري المصريين بقرية القراره ( تبة 86 ) حيث قاموا بقتل الجنود العزل بعد أسرهم وسكبوا عليهم البنزين وأشعلوا النار فى جثثهم وسط فناء مدرسة الوكالة بمدينة رفح ، وهذه الواقعة أكدتها أم بسام عبد الله التي عاصرت الأحداث ولا تزال تذكر وجوه الجنود السمر الشداد وهم يسيرون بخطي واهنة ويتمتمون بآيات من القران الكريم ، مؤكدا ان عمليات القتل والإبادة تمت جهارا نهارا أمام جمع من الجماهير بقصد الإرهاب والتخويف ! تنتهي الشهادات الحيه وتتداخل الصور الأرشيفية متنوعة ما بين لقطات من 48 والعدوان الثلاثي و 67 والاستنزاف و6 أكتوبر كأنه المرور علي كافة مراحل الصراع العربي – الصهيوني وملامسة الانتصارات والانكسارات فى تكثيف شديد للقطات وعبور سريع علي الزمن الفاصل بين الماضي والحاضر دون عزل أو استبعاد لهاجس العداء المتواصل بين الطرفيين برغم تغير الحقب والأزمنة وتعاقب الإرهاصات والمتغيرات التي لم تضف سوي المزيد من الكراهية ولم تُجمل غير شكل الدبلوماسية القبيح او تزيده قبحاً لو إفترضنا وجود شكل ما للمساعي الدبلوماسية بيننا وبين ذلك الكيان المريض . ويعود الفيلم مؤكدا علي الاسم والمعني "هم فى الذاكرة" لينتهي من حيث بدأ ، نظرة أفقية فى صبح صاف وشمس ساطعة علي قبور الشهداء والنُصب التذكاري للجندي المجهول فى رفح مشيرا إلي وحدة النضال التاريخي بين مصر وفلسطين عامدا إلي الصعود بالكاميرا إلي عنان السماء هابطاً تدريجيا إلي الأرض فى محاولة اجتهادية لإيجاد علاقة بين موطن جثث الشهداء فى الأرض وأرواحهم المحلقة فى الفضاء الكوني ، حيث الإشارة الرمزية إلي جنة الخلد ، مضيفا لذلك التصور الإيماني الفطري قداسة الأرض وخلودها وفوران البحر وغضبه عروجا علي المعني المتضمن فى اقتران السماء بالجنة علي اعتبار ان الأرض والبحر مرادفان للبقاء وثمنا غاليا للتضحية ، او كما يتواري المعني بين طيات الصورة الكلية ووهج الذاكرة حيث يسكن الشهداء بؤرتها . ** كاتب وصحفى مصرى