رغم السنين السبعين التي يحملها فوق كتفيه, وتخصصه في العلم الفقهي, إلا أنه كان له شوق للجهاد المسلح في سبيل الإسلام, فتقدم جنديا إلى الجيش المتجه لجزيرة صقلية لفتحها, ولكن حاكم تونس, والعارف بمكانته وقدراته, يختاره قائدا للحملة, ليقود عشرة آلاف مجاهد وينتصر بهم على جيش تعداده 100 ألف مقاتل, ثم يسقط شهيدا, بعد أن أضاف للإسلام جزيرة عامرة, ازدهرت فيها حضارته زهاء قرنين, مقدما المثال للعلماء المجاهدين بالقلم والسيف. ولد أسد بن الفرات عام 142 هجريا بمدينة حران, من أعمال ديار بكر في الشام, وبعدها بعامين انتقل والده إلى المغرب قائدا في جيش محمد بن الأشعث الخزاعي, والي أفريقية من قبل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. استقر أسد في القيروان، ونشأ في مهاد العلم لا الجندية, وتخصص في دراسة الفقه, ورحل في طلب العلم إلى المشرق, وأخذ عن الإمام مالك بن أنس في المدينةالمنورة, ودرس بين أيدي علماء بغداد ومصر, ثم عاد إلى تونس, وصنف كتابا شهيرا في الفقه المالكي هو كتابه "الأسدية", وولي قضاء القيروان, ثم شيخا للفتيا أو قاضيا للقضاء, لكن أسد خلد اسمه في التاريخ لا كعالم وإنما قائدا لحملة فتح صقلية. كان البحر الأبيض المتوسط آنذاك ميدانا للصراع بين الدولة الإسلامية والدولة الرومانية البيزنطية, ونجح المسلمون بعد معركة "ذات الصواري" الشهيرة عام 34 هجريا في أن يفتحوا مياه البحر أمام أساطيلهم, فيستولوا على قبرص ورودس وكريت في جانبه الشرقي, والجزائر الشرقية (جزر البليار) في غربه, ولم تبق إلا الجزر الثلاث الكبرى في وسطه وهي صقلية وسردانية وقورسقة (كورسيكا). وكان لافتتاح المسلمون لصقلية قصة طريقة تبدو من وقائعها الغريبة وحوادثها وكأنها من الخيال الشائق, يرويها المؤرخ محمد عبد الله عنان في كتابه "تراجم إسلامية" وخلاصتها أن سيدا من أشراف صقلية يدعي يوفميوس (ويسميه العرب فيمي) هام حبا براهبة حسناء واختطفها من ديرها, فحكم عليه الإمبراطور الروماني بجدع أنفه عقابا له على جرمه, فهرب فيمي إلى مدينة سرقوسة (سيراكوز حاليا), وثار في عصبته واستولي على المدينة, فهاجمته جند الإمبراطور واستردت المدينة, ففر إلى تونس واستغاث بأميرها زيادة الله بن الأغلب, ودعاه إلى فتحها, ووصف له غناها وسهولة الاستيلاء عليها. كانت إفريقية (تونس حاليا ) في ذلك الوقت تحت حكم أسرة الأغالبة الذين تولوا أمورها بتفويض من الدولة العباسية مقابل خراج بسيط, ورأي حكامها في فتح صقلية فرصة لإحياء تقليد الجهاد الإسلامي, فأعلنت النفير للجهاد. اجتمعت السفن الإسلامية من مختلف السواحل, وهرع الناس للجهاد, وكان من هؤلاء قاضي قضاة القيروان, أسد بن الفرات, رغم أن سنه شارفت السبعين عاما, فتقدم جنديا في الحملة إلا أن حاكم تونس زيادة الله بن الأغلب اختاره ليكون قائدا للحملة. ويرى المؤرخ الدكتور حسين مؤنس في كتاب "معالم تاريخ المغرب والأندلس" أن اختيار فقيها لقيادة الجيوش كان أمرا مستغربا, لأن العادة جرت بأن تكون قيادة الفتوح لأهل الحرب, ويضيف مؤنس أن سبب اختيار أسد جاء بسبب عدم ثقة زيادة الله في قواده, وهو أمر يستبعده المؤرخ عبد الله عنان ويذهب إلى أن قيادة أسد بن الفرات للحملة على صقلية لم تكن التجربة الأولي له في ميادين القتال, فقد ندب لقيادة البحر قبل ذلك, وقام في مياه البحر المتوسط بغزوات بحرية سابقة, وينقل عن ابن خلدون في مقدمته أن أسد شيخ الفتيا فتح قوصرة (وهي جزيرة بنتلاريا الصغيرة الواقعة بين تونس وصقلية), كما يذكر عنان نقلا عن كتب التاريخ الفرنجية أن المسلمين قاموا بغزوات على جزيرة قورسقة (كورسيكا) عام 810 م, واستولوا عليها مؤقتا, حتى أخرجتهم قوات شارلمان إمبراطور الفرنجة. وكان ذلك الفتح المؤقت لقورسقة على يد أسد بن الفرات.
خرجت القوات الإسلامية من ميناء "سوسة" التونسي بقيادة القاضي وأمير البحر الشيخ أسد بن الفرات متجها صوب صقلية, وتضم في تعدادها تسعمائة فارس وعشرة آلاف من المشاة. رست السفن الإسلامية في ميناء مازر (مازارا) في الطرف الغربي من صقلية, وحشد حاكم الجزيرة بيلاطوس (ويسميه العرب بلاطة) قواته لملاقاة الجيش الإسلامي الزاحف, وهنا عرض "فيمي" على الشيخ المجاهد أن يقاتل معه, ولكن أسد أبي بشدة, وطلب إليه أن يعتزل المسلمين إذ "لا حاجة بهم إلى الانتصار بالكفار", متأسيا برسول الله الذي رفض مساعدة اليهود في معركة أحد. تقابلت القوات الزاحفة في معركة شديدة, ثبت فيها المسلمون رغم قلة عددهم, وأظهر أسد براعة في قيادة الجيوش, وانتهت المعركة بهزيمة شديدة للجيش الرومي, وغنم المسلمون كل أسلابهم ودوابهم, واستولوا على عدة حصون داخل الجزيرة, لكن وقع ما غير سير القتال, إذ بدأ "فيمي" يخشي عاقبة توغل المسلمين في صقلية, فبدأ يشجع أهلها على المقاومة, ووصلت الأمداد من بيزنطة إلى صقلية. يقول عبد الله عنان "ونشبت بين المسلمين والروم في البر والبحر معارك مستمرة, وأبدي أسد في تنفيذ خططه الحربية براعة وخبرة مدهشة كأحسن القادة العسكريين", وامتد خط القتال من ميناء سرقوسة في شرق الجزيرة إلى مدينة بلرم في شمالها الغربي. وهنا وقع الوباء بمعسكر المسلمين في سنة 213 هجريا/ 828 م, فهلك فيه كثير من المسلمين, وفيهم قائد الحملة الشيخ المجاهد أسد بن الفرات, ودفن هناك في تراب الجزيرة ليكون شاهدا على شيخ لم يعبأ بحمل السنين الذي ينوء به ظهره, وترك مجلس علمه, وحمل سيفه لينال الشهادة في سبيل الله. ومن بعد أسد, استكمل المسلمون فتح صقلية, وقامت فيها دولة إسلامية لبثت زهاء قرنين ازدهرت فيها الجزيرة حتى غدت حديقة يانعة, تزهو بعلومها وتجارتها وصناعتها. وتحولت بلرم – عاصمة الجزيرة الإسلامية – إلى مركز علم عربي, ومعبر انتقلت من خلاله معارف المسلمين وعلومهم, لتيقظ أوروبا من سباتها العميق. وتنير الطريق إلى عصر النهضة. تلك هي قصة فتح صقلية, وقصة فاتحها أسد بن الفرات, ولم يكن من النادر أن يشترك العلماء والفقهاء والمحدثون في الفتوح الإسلامية, فقد كان من العادة أن يحتشدوا في مؤخرة الجيش, لكن ها هنا يقدم أسد بن الفرات صورة مغايرة , فيقود الأساطيل الغازية , ويتحرك بالجيوش الزاحفة , ويتقدم الصفوف المقاتلة , ليسقط في نهاية رحلة حياته شهيدا بعد أن أضاف إلى أملاك الإسلام جزيرة صقلية.