يبدو لكل ذي عينين في مصر الآن أن من يدير اللعبة السياسية «المجلس العسكري » بشخوص مدنية علمانية ليبرالية يسارية وناصرية سواءً بقصد أو بغير قصد بعد أن تصدر المشهد منذ 28 يناير2011وحتى 30-6- 2012 بشكل فعلي انتقالي ؛ ذلك أنه ما كان ليتصدر المشهد علانية بعد هذا التاريخ موعد تسليم السلطة لأول رئيس مدني لمصر بعد 60 عاماً من الحكم العسكري منذ انقلاب 23يوليو1952. ذلك أنه قبل أن يخرج من الباب الطبيعي للسلطة دخل من الشباك بإعلان المحكمة الدستورية العليا بطلان ثلث مجلس الشعب المنتخب وبالتالي حل كامل المجلس في 14-6 وقبل إجراء جولة الإعادة الانتخابات بيومين فقط ، ثم قام العسكري بإجراء شاذ بإعلانه الدستوري المكمل ؛ أقصد « المكبل»، وقبل سويعات قليلة من غلق لجان الاقتراع من أول انتخابات رئاسية في اليوم الثاني والأخير لها الأحد17-6 بعدما لاحت في الأفق مؤشرات فوز مرشح الثورة د.محمد مرسي في إجراء استباقي يطعن الديمقراطية في مقتل ويغتصب السلطة التشريعية بقانون سكسونيا.
الذين تعج بهم الساحة الإعلامية والسياسية الآن ممن يسمون بالتيار المدني برعاية فلول مبارك وينتمون في أغلبهم إلى مدرسة عبد الناصر في الصوت العالي والشعارات الرنانة الزائفة وادعاء البطولات الوهمية، ما نشاهده في مصر الآن هو تحالف فلول النظام المخلوع مع فلول الناصرية ضد الدولة الجديدة برئيسها المنتخب با يعاز من المجلس العسكري الذي يراقب من بعيد عن كثب نتيجة صراع يتحكم فيه عبر أخطر مؤسستين القضاء المسيس والإعلام الذي فضّل نار العسكري حقداً وكرهاً في جنة الدولة الدينية التي في خاطرهم فقط.
يتباكى الناصريون ومعهم الليبراليون بطبيعة الحال على إهدار أحكام القضاء وعدم الانصياع لدولة القانون، وتناسوا أن زعيمهم الملهم عبد الناصر كان أول من داس على القانون بحذائه حينما حل الأحزاب السياسية واختصر الوطن كله في شخصه، وعندما اختار الرئيس محمد نجيب الديمقراطية في ما يسمى بأزمة مارس1954 عزله وأهانه، بل قام بتجييش عمال النقل للقيام بإضراب يشل حركة البلاد والخروج في مظاهرات تطالب بسقوط الديمقراطية والحرية الذي وعد الشعب بالالتزام بهما في أول بيان لانقلاب يوليو، وحينما طالبه الفقيه القانوني والدستوري عبد الرازق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة بإرساء الديمقراطية وضرورة عودة الجيش إلى ثكناته منحازاً إلى الرئيس محمد نجيب وإلى المبدأ السادس الذي وضعه ، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.. فكان جزاءه الضرب بالأحذية في مقره بمجلس الدولة وفرض عليه الإقامة الجبرية حتى وفاته 1971، وعزل أول رئيس للجمهورية بعد الملكية اللواء محمد نجيب في سجن مهين بالمرج- ثم كانت مذبحة القضاة الشهيرة فى31أغسطس1969 بعزل عبد الناصر أكثر من مائتي قاضياً بالمخالفة للقانون، نتيجة لتقارير كاذبة من أعضاء التنظيم الطليعي ذراع الاتحاد الاشتراكي(الحزب الأوحد للسلطة) تتهم القضاة بالعداء لنظام23يوليو.. أين القضاء والقانون أيها الكذابون من فلول عبد الناصر وأنتم أول من يحتقر القانون بحكم نزعاتكم الاستبدادية؟!.
يبدو أن السيد حمدين صباحي الصحفي الذي يتكلم أكثر مما يكتب المرشح الخاسر والذي جاء ثالثاً في السباق الرئاسي؛ لم يكن يحلم أن يحل في هذا المركز فأصابه الغرور وسط حشد من أنصاره من الناصريين و العلمانيين واليساريين رافعاً لنفس شعارات سيده عبد الناصر والتي عفا عليها الزمن ، وداعياً إلى تشكيل تياراً ثالثاً(يتوافق بالطبع مع المركز الثالث الذي حصل عليه في انتخابات الرئاسة) بين العسكري والديني كما يزعمون، ويتبارون للظهور في وسائل الإعلام المرئية طبعاً في تظاهرة صحفية للمطالبة باستقلال مؤسساتهم الصحفية معلنين بداية رحلة الدفاع المقدس عن ملكيتها للشعب ضد أخونة مهنة الصحافة ، وهل كانت الصحافة في مصر مستقِلة بكسر القاف أم مستقَلة بفتح القاف؟! وهي التي قام عبد الناصر بتأميمها في عام 1960؟ ولم يستطع كاتب أن يخرج خارج السرب وإلا فمعتقلات حمزة البسيوني في السجن الحربي جاهزة لاستقبال أصحاب الرأي في عصر قصف الأقلام وتكميم الأفواه وقطع الأرزاق – ألا يخجل هؤلاء من ماضيهم الذي جرّبته البلاد في الخمسينيات والستينيات والذي ندفع ثمنه غالياً حتى الآن.
فعبد الناصر هو من أضاع السودان القريبة بفصلها عن مصر1956 بدعوى حق تقرير المصير بعد أن كانت مصر والسودان وطناً واحداً ثم أقام وحدة فاشلة مع سوريا الشقيقة البعيدة جغرافياً دون دراسة متأنية من1958حتى1961، ثم دخل اليمن 1962 في مغامرة غير محسوبة خرج منها مهزوماً ، ثم النكسة الكبرى 5يونيو1967 والذي أضاع فيها سيناء والقدس وغزة والضفة والجولان – هذا هو جمال عبد الناصر الذي لم يمت كما قال الرئيس الراحل السادات، والذي مازال يحكم على يد تلاميذه من العسكر الذين يتحكمون في الجيش والشرطة والقضاء وتلاميذه من الليبراليين والقوميين الذين يديرون الإعلام- لقد سئمناكم وجرّبناكم بالفعل فدعونا نحيا كراماً أعزاء في بلدٍ اختطفت عشرات السنين لصالح العسكر ومن دار في فلكهم. [email protected]