أشفق علي رئيس الدولة من تَرِكةٍ ثقيلة، من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، صنعها آخرون على مدار عقود، آلت فيها قيادة الوطن لهم، فحرموه من خيراته، وأفسدوا أرضه وماءه وسماءه، وأضروا صحة وأخلاق أبنائه، وأضاعوا هيبته ومكانته أمام أصدقائه وأعدائه.. فاستدانت بلد النيل والهرم وسيناء والقناة على أيديهم، في حين اكتظت بنوك أوربا وأمريكا بما سرقوه ونهبوه ثم هربوه من أموال مصر، وتسول شباب مصر لقمة العيش في بلاد كانت تعيش من خير مصر، وهرب آخرون من جحيم الفقر والحاجة ليلاقوا الموت غرقاً، وهاجرت عقول الأمة متوجهة إلى بلاد تقدر نبوغهم وتفوقهم، واستوطنت أمراض الكبد والسرطان والفشل الكلوي أجساد المصريين جراء التلوث المائي والغذائي ونالت مصر في ذلك أعلى النسب.. إذن، مصر في محنة حقيقية وتحتاج إلى معجزة في السياسة والإدارة كي تخرج منها. وهنا يطرح السؤال نفسه.. بأي الملفات نبدأ؟!
كي أمهد الطريق أمام العقول لتفكر في الحل.. أطرح هذه الفكرة المتواضعة: لو كان لدينا مستنقع كبير ينتج جيوشاً من «الناموس».. فكيف نقضي عليه؟!.
إنَّ الحلَّ الوقتي القائم على مقاومة «الناموس» برش مبيد حشري، هو الحل السائد إزاء مواجهة مشكلاتنا الأزلية.. نعالج سطح المشكلة بقتل بعض «الناموس» دون أن نُقدر جيداً الآثار الجانبية التي ترتبت على قتله بمبيد سام، ثم نكتشف بعد فترة أن «الناموس» قد عاد محصناً ضد الحل الذي اخترعناه، لنفكر مجدداً في مبيد أكثر فاعلية وفتكاً، لتستمر المشكلة ويستمر «الناموس»، ويضاف إليهما ما سببه الحل السطحي «المبيد» من آثار جانبية!.
إنَّ الحلول القاطعة وذات الأمد الطويل، والتي لا يترتب عليها أي أثر اقتصادي أو اجتماعي، هي المَطلبُ المُلح في الفترة المقبلة.. الخروج من شرنقة الأفكار المُعلبة أو التقليدية أو المُقلدة بات ضرورة قصوى لاقتلاع المشكلات من جذورها لنقطع دورة حياتها واستمراريتها وتجددها، وذاك يستلزم البحث عن مصدر المشكلة ثم إزالته ومحوه.. إذن نجفف البركة أو المستنقع لنقضي استراتيجياً على «الناموس»!.
كان دَأبُ النظام السابق هو إطالة عمر المشكلة بإغراق القائمين على حلها في بحور التفاصيل والتعليمات الفوقية التي لا تمت للقانون بصلة، وكانت أحد ضمانات الاستمرار في المنصب هو الالتزام بهذه السياسة، لا الالتزام بالقانون، وبالتالي تحول المرؤوس من منفذ للقانون إلى منفذ لتعليمات رئيسه، وهكذا تحولنا من دولة سيادة القانون إلى دولة سيادة النظام والأشخاص.
بات ضرورياً أن نقول.. إنَّ الحل ليس في التخلص «بالرش» ممن أطاعوا الرؤساء وخالفوا القانون، لأنهم «كالناموس» لا حصر له ولا عدد، إضافة إلى بيضهم الكامن في الأدراج وفوق الأرفف، ومقاومته «بالرش» لا تعني بالضرورة قتل البيض، وتعني في ذات الوقت التخلص من عناصر جيدة لم تخضع ولم تخالف، ولكن تم أخذها بالشبهة لا بالبيِّنة.. إذن لنجفف بيئة الفساد بوضع القانون محل الخواطر والتملق والتعليمات الفوقية.
مثال واقعي يتعلق بي شخصياً.. عُينت بمسابقة في وظيفة مدرس، والقانون وضع شروطاً للتعيين ليس من ضمنها التحري عن الفكر السياسي والتوجه الديني والانتماء الحزبي، ولكن وبالمخالفة للقانون وبتعليمات فوقية تم وضع هذا الشرط على رأس قائمة الشروط، ليتم استبعادي بناءً على رأي أمن الدولة إلى وظيفة إدارية بقرار إداري صادر عن جهة تتعامل مع القانون وتراه رأي العين، ورغم ذلك خالفته لتنفذ تعليمات فوقية ترتب عليها نقلي إلى وظيفة إدارية لمدة خمسة عشر سنة، حتى جاءت الثورة وأرجعتني والكثيرين إلى وظائفهم الأصيلة.. الفكرة أن القانون غاب عن التطبيق، فغاب العدل وتفشى الظلم، وعليه فالحل ليس في التخلص فيمن نفذ تعليمات الأمن، ولكن الحل في وضع القانون فوق رؤوس الجميع بلا استثناء ولا خصوصية.
إنَّ تجفيف برك الفساد بإعمال القانون كفيل بالقضاء على كل الهوام التي تنبعثُ منها!.