ساد الحزن الوسط الثقافي إثر رحيل الكاتبة نتيلة راشد الملقبة ب"ماما لبنى" رائدة أدب الأطفال في مصر بعد معاناة مع المرض، والراحلة كاتبة صحفية وأمينة لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للثقافة. ربطت الكاتب الصحفي محمد فتحي علاقة ود بمعلمته الراحلة نتيلة راشد، فقد دأب منذ الصغر على قراءة مجلة "سمير" التي ترأست الراحلة تحريرها قائلاً أنه كان دائماً ما يلفت نظره في المجلة هو افتتاحيتها التي كانت تكتبها الراحلة تحت اسم "ماما لبنى" وتبدأها قائلة "أولادي حبايب قلبي".
يواصل: كان في المجلة باباً بعنوان "مراسل سمير الصحفي الناشئ" وهي استمارة يتم تعبئتها ثم ترسل إلى المجلة، ويتم اعتماد الطفل كمراسل صحفي للمجلة يرسل إليها بموضوعاته، وقد كانت هناك اجتماعات دورية مكنتني من مقابلة "ماما لبنى" والتعرف عليها عن قرب، وكنت حينها في الصف الثالث الإعدادي ولمست مدى حنوها وطيبتها، وقد تعلمت منها الكثير فقد أسقتني خلاصة تجربتها الصحفية، التي تمكنت الراحلة من خلالها تحقيق طفرة في أرقام توزيع المجلة التي وصلت في بعض الأحيان إلى 200 ألف نسخة.
تنبأت لي "ماما لبنى" – يواصل فتحي – بأني سأصبح صحفياً وهي التي وجهتني لدراسة الصحافة، ويحكي الكاتب الصحفي عن مواقف جمعته بالراحلة تؤكد أنها لا تخشى في الحق لومة لائم وأنها تحترم نفسها وقارئها، من هذه المواقف يقول فتحي حين كتبت تحقيقًا فى مجلة "سمير" عن سرقة الوجبات المدرسية من قبل المدرسين الذين يستحوذون عليها دون الطلاب، ونشر الموضوع حينها على ثلاث صفحات في المجلة، وحين قرأ المدرسون التحقيق أطلعوا عليه مدير المدرسة الذي أنذرني بالفصل والرسوب، وطلب مني نشر تكذيب لما كتبته وهو ما رفضته، وحين أبلغت مدير النشر بالمجلة حينها والذي كان مشرفاً على باب "مراسل سمير الصحفي الناشئ" محسن الزيات أبلغ الراحلة التي أرسلت إلى المدرسة لجنة من الوزارة للتحقيق مع مدير المدرسة الذي اتصل في النهاية بوالدي وطلب منه الصفح عما اقترفه في حقي.
كذلك من ضمن المواقف التي جمعت الكاتب محمد فتحي بالراحلة، حين قام بعمل تحقيق عن جمعية الرعاية المتكاملة التابعة لسوزان مبارك، وانتقد في الموضوع تعامل الجمعية بصلف واستعلاء مع الأطفال، وكأن المكان ثكنة عسكرية، وحينها تصور أن المجلة لن تنشره، إلا أن "ماما لبنى" طلبت أن نعرف رأي الطرف الخر وهو الجمعية في الأمر، وبالفعل نشر التحقيق مذيلاً بتعقيب منها على أداء الجمعية يحمل توبيخاً شديداً لهم.
اقترب فتحي بشكل كبير من الراحلة إنسانياً، ولم تنقطع صلته بها بعد تركها للمجلة مؤكداً أن "ماما لبنى" تميزت بالنزاهة، وليس أدل على ذلك من موقفها إزاء زوجها الكاتب الكبير عبدالتواب يوسف، فعلى الرغم من تميزه في الكتابة للأطفال حيث يعد أحد رواد هذا الأدب في مصر وله أكثر من ألف كتاب، وحصل على جوائز عدة، إلا أنها رفضت أن تنشر قصصه بمجلة "سمير" التي ترأست تحريرها، أو أن يكتب بها حتى لا يقال أنها تستغل منصبها، والمرة الوحيدة التي نشر فيها زوجها بالمجلة كانت دون علمها.
يضيف فتحي: استكتبت الراحلة عددا كبيرا من العظماء، مثل نجيب محفوظ، ويوسف السباعى، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وأنيس منصور، وعبد الرحمن الشرقاوى، وتعاونت مع كبار الرسامين مثل عبد السميع، واللباد، وحجازى، وبهجت عثمان، وغيرهم.
لم تتوقف الراحلة عن متابعة المجلة منذ أن تركتها، وقد حزنت كثيراً كما يقول فتحي نظراً للحالة المتردية التي أصبحت عليها المجلة حيث انخفض توزيعها إلى 800 نسخة، كانت دائمة الانتقاد لعدم تطور المجلة فنياً حيث يحصل رسامو المجلة على أجور منخفضة مقارنة بباقي الرسامين في الصحف، كذلك افتقار المجلة إلى أجهزة فنية متطورة، بالإضافة إلى تجاهل دار الهلال المؤسسة التي تصدر عنها المجلة لها، وبالتحديد أثناء رئاسة مكرم محمد أحمد للمؤسسة، بجانب تجاهل الدولة لمجلة الأطفال المصرية الأهم في التاريخ.
ويذكر فتحى حينما عينته الراحلة فى اللجنة الاستشارية العليا للطفولة والنشء بمكتبة الإسكندرية، وكان حينها أصغر أعضاء اللجنة، حيث لم يتجاوز عمره 25 عاماً، راوياً أنه انتقد في أحد اجتماعات اللجنة دكتور إسماعيل سراج الدين الذي لم يستفد جيداً من خلاصة ما تقدمه له عقول العلماء والاستشاريين في كافة المجالات، وأن هذه الاقتراحات تظل حبيسة الأدراج بعيدة عن التنفيذ، وحينها خشيت ان تغضب "ماما لبنى" وإذا بي أفاجئ في نفس الاجتماع بأنها تثني عل حديثي وتكمل ما بدأته وتنتقد أداء سراج الدين.
ويرى فتحي أن الراحلة ظلت من الرموز المهمة المجهولة، والتي لم يسلط عليها الضوء إعلامياً بما يكفي، ويطالب بإنشاء جائزة لأدب الأطفال تحمل اسمها، بجانب الاهتمام بمجلات الأطفال في مصر التي أصبحت تخلو من هذا النوع من الأدب والصحافة، والاهتمام بمجلة "سمير" التي ساهمت الراحلة في إنشائها.
من جانبه وصف الروائي الكبير وكاتب الأطفال يعقوب الشاروني الراحلة بأنها من رائدات أدب الأطفال في مصر، والجيل الحالي حتى سن 45 عام يعرفها جيداً لأنها ظلت رئيس تحرير مجلة "سمير" للأطفال أكثر من 25 عام.
يوصل: كانت الراحلة أكثر من عمل في مجال الكتابة للأطفال ثقافة ومعرفة بأساليب تربيتهم وتقديم الأدب والصحافة لهم، وقد أعانها على ذلك معرفتها الواسعة باللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، وآخر ما شاركت به تنظيمها لندوة حول ترجمة أدب الأطفال من وإلى اللغة العربية في المجلس الأعلى للثقافة، فقد كانت مؤمنة بضرورة الإطلاع على آخر ما وصل إليه أدب الأطفال في العالم، خاصة بعد التغيرات الكثيرة التي حدثت نتيجة "العصر الرقمي"، والتواصل الكبير بين الطفل والعالم الخارجي بعيداً عن أعين الكبار.
يعرج الشاروني على مؤلفات الراحلة التي من أهمها "مذكرات عصام" التي كانت تنشرها بشكل دوري في مجلة "سمير"، واصفاً رحيلها بأنه خسارة كبرى لأدب الأطفال .
وصف الكاتب الصحفي حلمي النمنم رئيس مجلس إدارة مؤسسة "دار الهلال" التي تصدر عنها المجلة، أن الراحلة لعبت دوراً مهماً في قيادة مجلة "سمير" في أزهى عصورها، وتميزت "ماما لبنى" بلإخلاص والصدق والاعتداد بالنفس وعدم التلون وهي رمز لجيل نتمنى تكراره.
الروائي وكاتب الأطفال السيد نجم وصف الراحلة بأنها رائدة من رائدات الكتابة في مجال أدب الطفل، وهي أول من أدار مجلة "سمير" ليصل توزيعها إلى 100 ألف نسخة في الاسبوع، وهي طفرة في توزيع المجلة، ومنذ تركتها لم تصل المجلة لهذا الرقم.
ويلفت نجم إلى أن العنصر الإعلامي في أدب الطفل يعتبر المكمل الحقيقي لثقافة الطفل وأدبه، وما نعاني من حالياً هو عدم وجود إعلام ناجح للطفل رغم وجود أسماء كثيرة تكتب للطفل.
تمنت كاتبة الأطفال عفاف طبالة أن تحقق جزء مما حققته الراحلة في مجال أدب الطفل، حيث ترأست تحرير مجلة من أنجح المجلات للأطفال وهي "سمير".
ولدت الراحلة عام 1934، حصلت على ليسانس آداب فلسفة من جامعة القاهرة عام 1957، ترأست تحرير مجلة "سمير" للأطفال عام 1971، من أهم مؤلفاتها "تحيا الحياة"، "معسكر الجزيرة الخضراء"، "يوميات عائلة ياسر"، "حكاية كفاح ضد الاستعمار".
من ترجماتها: "مذكرات حصان"، "ملابس الامبراطور"، "الأمير السعيد"، وعشرات الأبحاث حول ادب وثقافة الأطفال، كما حصلتالراحلة على جائزة الدولة التشجيعية لأدب الأطفال عام 1980.