من يريد أن يكون نزيهاً عليه أن يكون نزيهاً في كل مواقفه، تجاه الآخرين وتجاه نفسه، والحق لا يقال، فقط، في وجه العدو أو الخصم، بل لا بد لكي يكون حقاً أن يقال في وجه الصديق، والأخ، والإبن، والنفس قبل أي أحد، وكما فعل أبو الحجاج الثقفي حينما صد ابنه الحجاج، برغم جبروته وبطشه، عن قتال عبدالله بن الزبير، حينما عاد إلى زيارة الطائف، وهو في طريقه إلى اجتياح مكة، باسم الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك، ويقتله، ويمثل في جثته، ويعلقه لتأكل الطير من لحمه، حتى خرجت أمه، أسماء بنت أبي بكر، وقالت قولتها المشهورة في وجه الحجاج: "أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟" وكما قال الفرزدق، في قصيدته الشهيرة:
"هذا الذي تعرف البطحاء وطأته/ والبيت يعرفه، والحل والحرمُ وليس قولك: منْ هذا؟ بضائره/ العُرْبُ تعرف من أنكرتَ والعجم"
في وجه الخليفة الأموي، هشام بن عبد الملك، حينما سأل بسخرية عمن يكون زين العابدين بن علي، والناس ملتفة من حوله وهو يطوف بالكعبة.
كلمة الحق التي تقال للسلطان الجائر، وهي التي قد تعرض صاحبها للهلاك؛ هي أقوى أنواع الحق، وكل كلمة حق قد تعرض صاحبها للسجن، أو الخسارة، أو المساءلة، تستحق الاحترام.
نعرف أن قولة الحق، في مجتمع صار يجيد النفاق، صعبة، ونعرف أن علي بن أبي طالب، حين قال: "لم يُبق لي الحق صاحباً"، كان يدرك نتائج قول الحق، فكما أن الرعية تنافق للولاة، وبلغة اليوم: الشعب ينافق للحاكم، فإن الحاكم قد ينافق للناس، أيضاً، وهذا وذاك كثير لدينا.
ولأن الحق مختلف عليه، ويثير الكثير من الأسئلة والمعارضة والنقد، فحين تطلق كلمة الحق لا نعتقد أن الآخرين يسلمون بها، فلا بد أن يخرج عليك من يفند حجتك، ويتهمك بالنصلة وفساد الرأي وضلال المنطق.
سقت تلك المقدمة للقول إن ما جرى، الأسبوع الماضي، في قضية عدم إصدار رابطة الكتاب الأردنيين بياناً ضد ما يجري في سوريا، فتح أوكار الدبابير، وفتح باب المزايدات والتملق والنفاق، وتم تصوير أولئك الذين وقعوا على البيان باعتبارهم مجرمين يكرهون سعود قبيلات، ويريدون استغلال القضية لمصالح انتخابية؛ بل ذهب الحد بالبعض من المنافقين إلى قول إن البيان، برمته، محاولة لاغتيال قبيلات، واغتيال تاريخه الشخصي، رغم أنه (أشرف من كل الموقعين)، الذين يتجارون بقذارة بدم الشهيد حمزة الخطيب. نعم، وصل الحد بالبعض إلى هذا المنطق من النفاق الذي يسيء إلى سعود أكثر مما يخدمه.
القضية، بكل بساطة، أن الموقعين على البيان اعترضوا على رفض الرابطة إصدار بيان مشابه لما فعلت تجاه تونس ومصر، وكما تفعل تجاه القضية الفلسطينية، وحتى في الشأن الأردني الداخلي، ولم يكن الهدف تكفير سعود قبيلات، ولا تسويد وجهه، ولا اغتياله، وهو رئيس رابطة لمدة دورتين، ولن يترشح لدورة جديدة كي يقال إن الموقعين قصدوا إفشاله، وليسوا جميعهم من تيار معارض لتيار القدس لكي يقال إن البيان مفتعل، ويسعى إلى كسب معركة انتخابية.
أما استقالة أعضاء الرابطة الثلاثة، على خلفية البيان، فهي حقهم، ومن حق الآخرين أن يقرؤوها بطريقتهم، لكنها لم تكن سابقة على البيان، بل قد يكون البيان سرع في تنفيذها. وسواء أخطأ المستقيلون أم فعلوا الصواب، فلا يعني ذلك أن تتم التعمية على الموضوع الأساسي، وهو أن الرابطة لم تصدر حتى هذه اللحظة بيانها المأمول، بحجة رفض التدخل الأجنبي، وكأن التدخل الأجنبي في العراق، سابقاً، وفي فلسطين تاريخياً، وفي ليبيا، مؤخراً، وفي العالم العربي برمته ينتظر إذنا من رابطة الكتاب الأردنيين.
لقد كان لنا في الدستور الثقافي السبق في فتح القضية، ولم نكن نعلم أن كلمات الصديق سعود قبيلات ستثير كل هذه الردود، رغم أن موقف الرابطة معلن قبل التحقيق وبعده، وحتى اليوم، ورغم أننا نشرنا رد الصديق سعود كاملاً، ومن دون تعليق منا لأننا لم نرد أن تتحول القضية الى معركة بيننا وبينه لكن الشاعر الصديق، أيضاً، أمجد ناصر، تناول الموضوع، وكتب عنه في "القدس العربي". وبعد صدور البيان ثارت حملات تشكيك في نوايا الموقعين، وقد رفضت بعض الصحف نشر البيان لأنها في صف "تيار القدس"، وليست في صف المهنية والحياد. وبالرغم من كل ما جرى، ومن عودة أمجد ناصر إلى الكتابة، أمس، عن الموضوع، نقول للصديق سعود: وأنت تترك الرابطة، وتعود إلى الكتابة، بعد أربع سنوات مضنيات، قل كلمتك، ولا تتمرس خلف حجة تخلق مبرراً للقمع. أليس بإمكان الرافض للتسوية والتطبيع، مع إسرائيل، ألا يقتل شعبه ويجرم بحقه؟ يا صديقي سعود، نحن لم نسع إلى اغتيالك، ولا قتل تاريخك وتجريمك؛ فأنت مناضل شريف ونزيه، ولا يقبل ضميرك أن تمتهن كرامة الناس لأي عذر، حتى لو كان تحرير فلسطين نفسها.
وإنني من منطلق الحب لك وليس العداوة ولا المناكفة، أقول لك: كن إلى جانب الحق، مهما كلف، خاصة وأنت ما زلت تمثل أغلبية الهيئة العامة للرابطة، وإدانتك القهر والقمع لا تعني أنك توازن بين من يدعم المقاومة ومن يقف ضدها، بل نحن مع المقاومة ومع بياض كف المقاوم والمناضل، وليس مع تعمية عين واحدة ورؤية الأمور بالعين الثانية.