صناعة الأفلام الوثائقية باتت بحاجة الى وقفة، ففي ظل تكاثر الفضائيات، لم يعد كثيرون ممن دخلوا هذا المجال يهتمون بالصنعة، أو ينشغلون بالجودة، لان ما ينتجونه على رداءته يجد سوقاً رائجة، والمسألة لا تتوقف سوى على العلاقات الشخصية بين المنتج وصاحب القرار في أي فضائية. وكما تحولت التحقيقات الصحافية الى مجرد استطلاعات رأي لا أكثر، فان مجال الأفلام الوثائقية، وبسبب دخول 'الباعة السريحة' إليه، يكاد يتحول الى مجرد جمع للآراء، التي تقدم للمشاهد بدون عناية، على نحو يوحي بأن تنفيذ العمل تم في اللحظات الأخيرة، وبما لا يسمح بالإجادة فيه، وبشكل بات يقدم على سبيل الحشو وفقط، ولملء مساحات البث بأي كلام. قبل أيام شاهدت على احدى الفضائيات فيلماً وثائقياً لم اهتم بالوقوف على من قدمه، اذ كان فقيراً في الإخراج وفي السيناريو، وكان طارداً لمن يشاهده. والفيلم عن الحركة المصرية من اجل التغيير 'كفاية' بمناسبة ذكرى تأسيسها، وذلك باستعراض آراء البعض ممن شاركوا في تأسيسها ولم أنل أنا هذا الشرف، وفي لقاء مع المنسق العام الأول لها جورج اسحق على قناة 'النهار' تفاخر بأن كثيراً من الحركات الجديدة خرجت من رحم 'كفاية'، فكنا أمام حالة ابتهاج ولم يقل لنا سيادته عن الأسباب التي دفعت الى خروج هؤلاء لتأسيس حركات جديدة، والبعض خرج لأنه وجد الباب الى السفارة الأمريكية مفتوحاً، والحركة باعتبارها بعثا مصرياً خالصاً كانت ترفض أي علاقة لها بقوى خارجية. بعض الحركات الجديدة، ولعلاقاتها بجهات غربية لا يشرف حركة 'كفاية' ان تقول إنها ولدت من رحمها، فالرحم الطاهر لا ينتج هذه الكائنات، 'وما خبث لا يخرج إلا نكدا'. أول حركة بدت كما لو كانت قد خرجت من رحم كفاية، كان هذا في السنة الأولى لها، وباستغلال شخصية محترمة تنتمي الى العهد الناصري، وكانت في الأصل مؤامرة على حركة 'كفاية' وتستهدف العودة بعقارب الزمن الى الوراء، وسحب أضواء الكاميرات المصوبة ناحية 'كفاية'، وقد ضمت الحركة الجديدة من كانوا يريدون ان يعارضوا بدبلوماسية و'بالشوكة والسكينة'، وفي الوقت الذي خرجت كفاية تطالب بسقوط مبارك، وترفض التوريث، كانت الحركة إياها تطالب الرئيس مبارك بإصلاحات دستورية، وإقالة الحكومة. نفس صيغة المعارضة المعتمدة أمنياً منذ ان تولى حسني مبارك الحكم، فأنت تعارض هذا الوزير، وتهاجم الفساد بقوة على نحو يجعل البسطاء ينظرون إليك على انك زعيم من زعماء المعارضة، وقد تأخذ سيادة المعارض 'الجلالة' فيهاجم الحكومة، لكنه مع ذلك يطالب بتدخل (الرئيس) فهو لا يقبل بهذه السياسات، ولا يسكت على فساد، مع ان سيادته كان زعيم عصابة، وليس رئيس دولة. وكان هذا الصنف من المعارضين، من جلساء الرئيس وخلصائه، ويستدعيهم للسفر على طائرته، وتفتح لهم الفضائيات، ويحرض جهاز مباحث امن الدولة مكاتب الفضائيات بالقاهرة على الاحتفاء بهم 'وبروزتهم' حتى صاروا نجوماً ينافسون فيفي عبده في النجومية. وفي المقابل فان المعارضين الجادين كانوا يسجنون، ويقتر عليهم في أرزاقهم، وتغلق صحفهم، وتحل أحزابهم، ويمنعون من العمل. الرئيس الإله وبفضل هذه المعارضة انتقل مبارك من كونه بشراً رئيساً الى مرتبة الإله، وهو الذي كان مدعاة للسخرية من المقربين من أنور السادات عندما اختاره نائباً له، وكان احدهم يصفه بما راج بعد ذلك بأنه البقرة الضاحكة، ومع الوقت صار الاقتراب من رحابه ولو بشطر كلمة هو نهاية محققة لمن اقترب، وكثيرون من المعارضين الذين تشاهدهم الآن في الفضائيات فتعجب لجسارتهم كانت ترتعد فرائصهم إذا ذكر مبارك بما يكره في محفل هم فيه. كان صفوت الشريف قد جاء ليفتتح المؤتمر العام الرابع للصحافيين في نقابتهم، وكان اتصالاً تليفونياً من الرئيس بالنقيب قبل قدومه يحمل بشرى رئاسية بإلغاء الحبس في قضايا النشر، وكانت الخطة أن يعلن النقيب هذه البشرى العظيمة، فيهتف الصحافيون باسم الرئيس، فيتم نقل هذا عبر التلفزيون الرسمي والفضائيات للخارج، لتقف الدنيا كلها على مكانة مبارك في قلوب أصحاب الأقلام. زف النقيب البشرى، وفي اللحظة التي انطلقت فيها أصوات المؤيدين المحتشدة، خرج صوت زميلنا صلاح بديوي: 'يسقط الطاغية حسني مبارك'، وارتج على القوم والتفت الرائد متقاعد صفوت الشريف مرتبكاً الى من بجواره: نحن لم نتفق على هذا؟!.. وهرع كثيرون من الذين يكتبون مذكراتهم هذه الأيام عن دورهم الرائد في إسقاط مبارك يسدون بأيديهم فم بديوي، الذي لم يتوقف عن ترديد الهتاف السابق: يسقط الطاغية حسني مبارك، وانتصب مرشح محتمل لرئاسة الجمهورية خطيباً مقدماً الاعتذار باسم جموع الصحفيين الى صفوت الشريف.. وأصدقاء المرشح المحتمل يقدمونه هذه الأيام على انه المهدي المنتظر، صاحب التاريخ العريق في معارضة مبارك! قطع بديوي الطريق أمام عملية نقل تلفزيون الدولة لما جرى، فبعد قص ولزق فشلوا في عزل صوت صاحبنا عن أصوات البيعة والحب العذري التي هزت أركان القاعة، وتم الاكتفاء بنقل المذيعة لبشرى الرئيس السارة. وهو ما فعلته الفضائيات الحاضرة، فلم يكن مقبولاً أن تنقل هذه الجلبة ولو كانت تأكيدا على تأييد جارف وان المعارضة لا يمثلها سوى فرد مندس وسط صفوف المحبين! كان مبارك خطأ احمر، وعندما هتف زميلنا إبراهيم الصحاري بسقوط جنابه، تم اعتقاله ليلاً، وكان الإفراج الذي حصل عليه نقيب الصحافيين مشروطاً بعدم اقترابه من الذات التي لا تمس، لكنه عاد مرة أخرى وكررها على سلالم نقابة الصحافيين فجرى اعتقاله أيضاً. الرئيس المترنح حالة التجرؤ على مبارك كانت بعد ان شاهدناه جميعاً وهو يترنح في مجلس الشعب ويسقط مغشياً عليه وهو يفتتح الدورة البرلمانية الجديدة، وكنت أشاهد التلفزيون بعدم اكتراث عندما سقط، وعندها وقفنا على انه بشر من لحم ودم يمرض ويمكن ان يموت.. ولا انسى يومها انني قلت ان الرجل أصبح معرضاً للموت وكنت اعتقد انه آخر بشر سيغادر الحياة، وبعد مغادرته مباشرة تقوم الساعة. وفي هذه الإثناء خرجت حركة 'كفاية'، وظلت الفضائيات فترة طويلة تنطق اسمها هكذا: 'الحركة المصرية من اجل التغيير' .. 'كفى'، إلى أن صار الاسم أشهر من النار على العلم، وأصبح يخرج من بين شفتي جمانة نمور فتشعر بنكهة خاصة به على ركاكته، وينطق به لسان جمال ريان فيستقر في وجدانك ان الحرب العالمية الثالثة قد اندلعت! الفيلم الوثائقي سالف الذكر عرض لعملية انشقاق داخل 'كفاية' كان بطلها الدكتور يحيى القزاز، لكنه لم يتوقف أمامها كثيراً، على الرغم من استضافة القزاز في الفيلم، وقد كان احتجاجاً على سياسات المنسق العام جورج اسحق، وفي الواقع أن الحركة بعد لحظات الضعف لم تنهض إلا بعد ان غادر المذكور الموقع، وان كانت الفضائيات ظلت فترة طويلة تستضيفه باعتباره المنسق العام السابق لكفاية، وهو نوع من الاستسهال، فإذا وُجد المنسق العام الحالي فما هو المبرر لاستدعاء المنسق العام السابق؟! اسحق مكن رجل أعمال بعينه، بدا كما لو كان قد خرج من 'العلبة' ليقدم نفسه باعتباره ممول 'كفاية' اسمه هاني عنان، الرجل لم يكن زبوناً على الفضائيات، ولم يكن يتصدر المشهد، وإنما كان يحب ان يتحدث عنه الآخرون على انه هو ممول الحركة وداعمها مالياً، لكن وجوده انقطع كلية بتولي عبد الحليم قنديل مسؤولية المنسق العام. وكان أداء جورج اسحق لا يتفق معه كثيرون، وأذكر انه عندما جرى الاعتداء على زميلتنا الراحلة نوال علي أمام نقابة الصحافيين في عز الظهر، كان أن دعت الحركة الى مظاهرة صامتة بالشموع بجوار ضريح سعد زغلول، وكان أول احتكاك بيني وبين الرجل هناك بشكل أزعج رجال الأمن الذين ظنوا أن جورج اسحق هو صاحب الليلة. لم أكن لحظة التحرش الجنسي بزميلتنا نوال حاضرا وهي التي نقلتها الفضائيات الى كل العالم، ولم يعتذر عنها النظام البائد، فما أشبه الليلة بالبارحة، بل نشرت جريدة 'الأهرام' الوقورة، في عصرها الذهبي عندما كان يديرها حبيب العادلي، عبر موفد له فيها، أن نوال هي التي تحرشت برجال الأمن! المقاومة بالسلاح كنت في أيامها في حالة غضب لا توصف، وعندما دعي الى مظاهرة على سلالم نقابة الصحافيين احتجاجاً على ما جرى كانت هذه هي المظاهرة الأولي التي أشارك فيها بالهتاف، وقد هتفت بسقوط حسني مبارك، ربما كان الغضب حينها مرده الى طبيعتي الشخصية كرجل صعيدي أستبيح عرض زميلته على هذا النحو الذي جرى، وحينها استقر في يقيني ان مقاومة نظام مبارك ولو بالسلاح هي واجب وطني وديني وأخلاقي. وكنت بين الحشود الذين حملوا الشموع بجوار ضريح سعد، وعرفت بعد هذا ان اتفاقاً جرى بين منسقها وقيادات الأمن على موعد انتهائها، وقد أحكمت قوات الأمن سيطرتها على المكان وسمحت بالخروج من منفذ وحيد، وكانت قيادة أمنية تطلب من الخارجين إطفاء الشموع، وعندما وصلنا قال لنا لن نسمح لكم بالخروج بها مشتعلة، وكان أن قلت له في غضب سأخرج بها والمكان الذي تضع فيه رأسك ضع فيه رجليك، والتفت الى جورج.. لم نتفق على هذا يا أستاذ جورج، وطلب جورج مني إطفاءها، ولأني كنت في الحالة سالفة الذكر، فقد رددت عليه: من أنت؟ وبأي صفة تتفق معهم؟.. لست السيد ناظر المدرسة ولسنا تلاميذ عندك! ذهل الرجل لهذه الحدة، ونظر إليه رجال الأمن في دهشة، وبادلهم نظرة بنظرة ودهشة بدهشة.. لو تكلموا حينها لقالوا مجنوناً اندس في الصفوف، لكن زميلي محمد ابو لواية آنس وحدتي ورفض إطفاء شمعته وخرج يهتف بصعيديته الجميلة: لن أطفئها.. فأنا مولود على شمعة. إصراره وغيره من الزملاء على مخالفة التعليمات الأمنية انتقل بي من المجنون، الى أنني واحد من القلة المندسة. الفيلم الوثائقي قدم صورة لمظاهرة الشموع، لكنني لم أشاهد أبو لواية بهيلمانه الجسدي وهو يقول: 'انا مولود على شمعة'.. لكن ظهر فيه جورج اسحق وهو يروي دوره التاريخي في الدعوة الى هذه التظاهرة، التي شاركت فيها ولم أكن موافقاً على ان تكون صامتة، فلست صاحب كلمة مسموعة وسط الثوار، فلو كنت كذلك لقدت المظاهرة الى سجن مزرعة طره، لنستقبل جمال وعلاء مبارك وأركان النظام السابق عندما قامت ثورة 25 يناير. سبحانه وتعالى قدر ولطف.