القائمة الوطنية من أجل مصر تنظم مؤتمرا جماهيريا بالمنطقة اللوجستية في طنطا اليوم    جامعة الإسماعيلية الجديدة تهنئ بطل العالم في سباحة الزعانف    «تعليم الجيزة»: المتابعة اليومية بالمدراس رؤية عمل لا إجراء شكلي    حكاية وباء يضرب الحياة البرية.. إنفلونزا الطيور تفتك بآلاف أفيال البحر في الأطلسي    هيئة سلامة الغذاء تقوم بحملات تفتيشية على 94 منشأة غذائية لتقييم مدى التزامها باشتراطات الجودة    حملات على مخالفات البناء والظواهر العشوائية بعدد من المدن الجديدة    سعر الدينار الأردني أمام الجنيه في البنك المركزي اليوم الأحد    عبد الرحيم علي يسأل.. أيحتاج موقفٌ بهذا الوضوح إلى معجمٍ سياسيٍّ كي نفهمه؟    إيران تكشف تفاصيل أول قصف إسرائيلي استهدف موقعا نوويا في حرب ال12 يوما    القاهرة الإخبارية: اشتباكات بين الجيش السوداني والدعم السريع بغرب كردفان    ليفربول يزاحم مانشستر سيتي على ضم سيمينيو    الحضري: مواجهة الجزائر مهمة للوصول لهيكل المنتخب الأساسي.. وندعم حسام حسن    هاري كين: لن أحصل على الكرة الذهبية حتى لو سجلت 100 هدف    "أدار مباراتين للأبيض".. طاقم تحكيم رواندي لمواجهة الزمالك ضد كايزر تشيفز في الكونفدرالية    ضبط 15 مخالفة تموينية وصحية بمخابز قريتي شبرا نباص وصرد بمركز قطور بالغربية    مواعيد وضوابط امتحانات شهر نوفمبر لطلاب صفوف النقل    بالأسماء، إصابة 8 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص ونقل بطريق ميناء الدخيلة في الإسكندرية    إسرائيل تسرق 17 ألف قطعة أثرية من متحف قصر الباشا بغزة    خالد النبوي: مدحت العدل واجه تحديات لعرض "الديلر" وتعلمت الروسية لتقديم "علي الحلواني"    مستشفيات جامعة القناة تطلق فعاليات مؤتمر اتحضر للأخضر    محافظ أسيوط: تكثيف حملات النظافة ورفع المخلفات بالبداري لتحسين البيئة    إكسترا نيوز: مصر تواصل تقديم شاحنات المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" يواصل تنظيم فعاليات المبادرة القومية "أسرتي قوتي" في الإسكندرية    "الداخلية" تصدر 3 قرارات بإبعاد أجانب خارج البلاد لدواعٍ تتعلق بالصالح العام    سماء الأقصر تشهد عودة تحليق البالون الطائر بخروج 65 رحلة على متنها 1800 سائح    إعتماد المخطط العام لأرض مشروع «عربية للتنمية والتطوير العمراني» بالشيخ زايد    الاحصاء: معدل البطالة 6.4٪ خلال الربع الثالث لعام 2025    عظيم ومبهر.. الفنانة التشيكية كارينا كوتوفا تشيد بالمتحف المصري الكبير    حقه يكمل مشواره| شوبير يدافع عن حسام حسن قبل مباراة مصر وكاب فيردي    مصر وتشاد يبحثان خارطة طريق لتعزيز الاستثمار المشترك في الثروة الحيوانية    برنامج بطب قصر العينى يجمع بين المستجدات الجراحية الحديثة والتطبيقات العملية    «البيئة» تشن حملة موسعة لحصر وجمع طيور البجع بطريق السخنة    ارتفاع الذرة المستوردة وانخفاض المحلية، أسعار الأعلاف والحبوب اليوم في الأسواق    البورصة تستهل تعاملات جلسة اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025 بارتفاع جماعي    تقرير: أرسنال قلق بسبب إصابتي جابريال وكالافيوري قبل مواجهة توتنام    الفسطاط من تلال القمامة إلى قمم الجمال    الليلة على DMC .. ياسمينا العبد تكشف أسرار مشوارها الفني في صاحبة السعادة    الإفتاء تواصل مجالسها الإفتائية الأسبوعية وتجيب عن أسئلة الجمهور الشرعية    الأوقاف تعلن عن المقابلات الشفوية للراغبين في الحصول على تصريح خطابة بنظام المكافأة    إخماد حريق نشب داخل شقة سكنية دون إصابات في الهرم    حالة الطقس في السعودية اليوم الأحد.. أمطار رعدية غزيرة وتحذيرات من السيول    متحدث الصحة: ملف صحى إلكترونى موحد لكل مواطن بحلول 2030    مصر ترحب باتفاق الدوحة الإطاري للسلام بين جمهورية الكونجو الديموقراطية وحركة M23    كيف نظم قانون الإجراءات الجنائية الجديد تفتيش المنازل والأشخاص؟    كبير الأثريين يكشف تفاصيل تطوير المتحف المصري بالتحرير    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للمشروع التكتيكي بالذخيرة الحية في المنطقة الغربية    وزير الخارجية يجري اتصالات مكثفة بشأن الملف النووي الإيراني    اليوم.. وزيرالثقافة ومحافظ الإسكندرية ورئيس أكاديمية الفنون يفتتحون فرع ألاكاديمية بالإسكندرية    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 16نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا..... اعرف مواقيت صلاتك    بريطانيا تجرى أكبر تغيير فى سياستها المتعلقة بطالبى اللجوء فى العصر الحديث    فيلم شكوى 713317 معالجة درامية هادئة حول تعقيدات العلاقات الإنسانية    كمال درويش يروي قصة مؤثرة عن محمد صبري قبل رحيله بساعات    حامد حمدان يفضل الأهلي على الزمالك والراتب يحسم وجهته    خالد عبد الغفار: مصر تحقق نجاحات كبيرة جدًا على المستوى الدولي    أهلي جدة يبدأ خطوات الحفاظ على ميندي وتجديد العقد    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"التسامح الفلسفي" إلزاماً إنسانياً وواجباً دينياً
نشر في محيط يوم 13 - 01 - 2012


بقلم عبد الحكيم أجهر باحث وأستاذ جامعي سوري

مفكران كبيران في تاريخ الإسلام نقلا فكرة التسامح من مستواها الأخلاقي الذي يرتبط برغبة الفرد بأن يفعل أولا يفعل، إلى المستوى الفلسفي الذي يجعل من التسامح إلزاماً إنسانياً علاوة على كونه واجباً دينياً.

والقول بأن هذا النوع من التأسيس هو فلسفي لايقصد العودة إلى أي نص فلسفي رسمي ينتمي إلى الفلاسفة المعروفين في الإسلام والذين استلهموا أرسطو ونظرياته الأخلاقية. بل نقصد ذلك النوع من الفكر الذي نما وتطور في أحضان التساؤلات الدينية نفسها والذي انتهى إلى صياغات نظرية ناضجة تستحق وصفها بالفلسفية.

ابن عربي (638 ه/ 1240 م) وابن تيمية (728 ه/ 1328 م)، رغم ما يُعرف عن عداء الثاني للأول، إلا أن ابن تيمية أخذ الكثير من أفكار ابن عربي الفلسفية ودمجها في تصوراته وقام ببعض التعديلات عليها، لكنها بقيت في جوهرها أفكاراً تجعل من التسامح إلزامياً إزاء أي فكرة أو عقيدة أخرى. وبطبيعة الحال لن يتسنى لي أن أذكر كل العلاقات الفكرية المشتركة بين الشيخين ولكن من المفيد أن نمر بسرعة على تلك المفاهيم النظرية التي تجعل التسامح ضرورة وواجباً للجنس الإنساني حسب فهم هذين المفكرين للإسلام.

هناك ثلاثة ثنائيات أساسية تقدم لنا هذا النوع من الفهم أو إعادة فهم القضايا الدينية بشكل تجعل نظرتنا للكون والعالم الإنساني تختلف عن الفهم الفقهي التقليدي الذي ساد على الفكر الإسلامي زمناً طويلاً. أولاً: ثنائية الخير والشر، ثانياً: الإرادة الكونية والإرادة الدينية، ثالثاً: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. عندما نأتي لفهم هذه الثنائيات بصورة صحيحة نجد أنفسنا أمام فكر تسامحي مُلزم بالضرورة لكل مؤمن.

لقد صيغت هذه الثنائيات بشكل يكون الطرف الأول من أطرافها هو الأكثر شمولاً في حين أن الطرف الثاني يمثل حالة جزئية من الأولى. الخير، والإرادة الإلهية الكونية، وتوحيد الربوبية، مفاهيم شاملة لكل شيء في العالم الإنساني، بينما الطرف الثاني من الثنائيات فإنه إما أن يكون أقل على مستوى القيمة أو مقصور على حدود زمانية ومكانية. الشر مثلاً نراه عارضاً وعابراً ويمثل حالة خاصة من الخير على مستوى القيمة. كذلك الإرادة الدينية الإلهية لا تعادل الإرادة الإلهية الكونية التي تشمل الطبيعة والبشر. وتوحيد الإلوهية الذي جاء مع الديانات السماوية لا يشمل كل البشر مثل توحيد الربوبية الذي أقرة الناس جميعا منذ اليوم الأول للخلق، بينما توحيد الألوهية عرفه الناس في زمن متأخر عبر الديانات السماوية واقتصر وجوده على أصحابه ولم يشمل كل الناس، فليس كل الجنس الإنساني مسلم أو نصراني أو يهودي، بل هناك عقائد غير سماوية، بينما جميع العقائد السماوية وغيرها يؤمن أصحابها بتوحيد الربوبية الذي جاء في الميثاق الإلهي قبل الخلق.

أولاً: الخير هو أصل العالم وهو مطلق، ذلك أن الله هو الخير ذاته، وبالتالي لايصدر عنه إلا الخير. ولكن السؤال هنا هو كيف يمكن تفسير وجود الشر في العالم؟ والإجابة عند ابن تيمية تقول: إن الشر شيء عارض على الخير ذاته، بمعنى أن الشر هو نتاج للخير وليس معادلاً له، لذلك هو نسبي وعابر، ولا يتمتع بحضور جوهري في العالمين الإنساني والطبيعي. لو طرحنا أمثلة عن ذلك كما يفعل ابن تيمية، لقلنا إن المطر خير، ولكن عندما يتحول إلى سيول وفيضانات فإنه يصبح شراً بالنسبة للمتضررين منه، وهذا لايلغي خيرية المطر رغم الشرور العارضة التي تنتج عنه. وينطبق هذا على العالم الإنساني، فالشرور التي يرتكبها الإنسان لا تعكس شراً مطلقا ونهائياً في الجنس الإنساني، وإنما كلها تتبع في وجودها الخير المتأصل الذي يمثل ماهية الإنسان. ومن السهولة ملاحظة التفاؤل الذي تبشرنا به وجهة نظر كهذه، ذلك أن الإقرار بأولوية الخير وإطلاقيته تجعل الإنسان ينظر إلى الشر نظرة أقل انفعالية من المعتاد، وتجعلنا نعترف بوجوده الطارىء، ونخفف عن أنفسنا الانفعال الأخلاقي الذي يحرضنا أحياناً على الانتقام مما نعتقده شراً بطريقة عنيفة.

تنطبق ثنائية الخير والشر على الأفعال والسلوكيات الإنسانية، ويبدو التسامح هنا ضرورة محتمة طالما أن الشر ليس سوى جزء مُكمل وتابع لوجود الخير ذاته، فهذا مايقتضيه الكون وهذا مايجب على الإنسان أن يفهمه. هذا الفهم للخير والشر يختلف عن فهم المعتزلة، لأن هؤلاء قالوا عن الله إنه كائن خيّر وإنه لا يخلق إلا الأصلح للإنسان وبذلك جعلوا من الله بريئاً من الشرور التي يُحدثها الإنسان في العالم، ونسبوا هذه الشرور للفعل الإنساني فقط. ولذلك استحق الإنسان عند المعتزلة العذاب الأخروي الأبدي، لأن كل مايفعله من شرور يحصل بحريته وإرادته هو، ولا علاقة لإرادة الله باختيارات الإنسان وأفعاله، الأمر الذي يجعل الإنسان مسؤولاً مسؤولية تامة ويوجب عليه عقاباً لا مكان فيه للرحمة، على خلاف تصور ابن تيمية الذي سيدفعه فهمه الخاص للخير والشر إلى اعتماد الرحمة الإلهية كصفة وجودية معادلة للخير ذاته، وليس كشفاعة مجهولة.

ثانياً: الثنائية المهمة الأخرى هي ثنائية الإرادتين الإلهيتين، الإرادة الكونية والإرادة الدينية. الإرادة الكونية هي الأساس والأكثر شمولاً لأنها تعادل كل ما تم بالقدرة الخلاقة لله التي تظهر في تنوع وسحر هذا العالم، وسميت إرادة كونية لأنها ترادف الأمر الإلهي (كن). الإرادة الكونية هي العالم كما نراه ونختبره بنوعيه الإنساني والطبيعي، هي نفسها قوانين العالم الفيزيائي، وسماواته وكواكبه، وولادته وفناؤه، وهي نفسها البشر كما نعايشهم في تنوعهم وتعددهم، في عقائدهم وألوانهم ولغاتهم ومستوى أفهامهم وكثرة أديانهم، في ملحديهم ومؤمنيهم....، الإرادة الكونية هي العالم بحقيقته وواقعه.

في المقابل فإن الإرادة الدينية هي الحالة الخاصة التي أراد فيها الله أن يرشد الإنسان إلى الطريق الأفضل لخلاصهم الدنيوي والأخروي، فالدين هو قول إلهي للجنس الإنساني داخل هذا التنوع لإبلاغ البشر أن هناك طريقاً يؤدي إلى الحقيقة ومن الأفضل لهم أن يأخذوا به. هذا المُراد الإلهي هو مادفع ابن تيمية ليجعل الإرادة الدينية أو الإسلام ذاته مُعادل لحب الله ورضاه. بمعنى أن الله يحب للبشر أن يذهبوا في الطريق الذي يبلغهم به بواسطة أنبيائه، ولكن إذا لم يفعلوا فإنهم سيسيئون إلى محبة الله ورضاه فقط ولكن ليس إلى إرادته الكونية، لأنهم لن يخرجوا أبداً عما أراده الله لهم إرادة كونية أزلية، ذلك أن حب الله لشيء وإرادته للشيء ذاته كثيراً ما يتعارضان عند ابن تيمية، فالله قد يكره شيئاً ولكنه يريده، وقد يحب شيئاً ولا يريده إرادة كونية. الأمر الذي يعني أن واقع الإنسان يرتبط في المصير المقرر له منذ الأزل وفقاً للمشيئة الإلهية. إن الله يحب من البوذي والهندوسي وعبدة الأوثان والملحد.. أن يستجيبوا لنداء الحقيقة الإلهي، والله سيغضب إذا لم يفعلوا، ولكن الله في النهاية يعرف أن هؤلاء هم خلقه الذين أراد لهم منذ البدء أن يكونوا كذلك. فالمشهد الكوني لا يعكس القدرة الخلاقة لله إذا لم يكن على هذه الدرجة من التنوع والتعدد.

وحتى القيم الإنسانية النبيلة لن تكون كذلك إذا لم يكن هناك قيماً أخرى تعارضها، والمعصية هي كذلك لأنها فقط خالفت أمراً شرعياً ولكنها في الأصل ليست معصية لأنها لم تخالف إرادة الله الكونية، يقول ابن تيمية بوضوح: "والمعصية هي مخالفة الأمر الشرعي، فمن خالف الله...فقد عصى وإن كان داخلاً فيما قدره الله وقضاه، وهؤلاء طنوا أن المعصية هي خروج عن قدَر الله، وهذا لايمكن، فإن أحداً من المخلوقات لا يخرج عن قدَر الله" (مجموع الفتاوى، ج. 14، ص. 357). التنوع في العالم لا يُفسَر فقط بالإرادة الكونية بل حتى صفات الله التي هي مصدر وجود العالم متنوعة على شكل ثنائيات متقابلة، فالله رحيم وقهار، ظاهر وباطن، مذل ومعز، محيي ومميت....، لذلك لا بد من وجود التناقضات والتعارضات في وجود البشر لأن العالم هو آثار هذه الصفات.

الإسلام إذن هو درب من جملة دروب أخرى يعتقد فيها الناس، والله قد أقر كل هذه الدروب وأرادها بالمشيئة العامة والقَدَر الأول، وإن كان يحب درباً بعينها. وهنا تبدو مسألة الحرية والجبرية مصاغة بطريقة محددة، فالإنسان ليس حراً مطلقاً لأنه بالنهاية نتاج الشروط التي نشأ فيها وجعلته على ماهو عليه، ولكن مع ذلك فإن الإنسان يمتلك قدراً من الحرية، ذلك أنه مسؤول عن ممارسة الاختيار بين الدروب المتعددة تلك، وهنا مسؤوليته التي تتحدد بدرجة الممارسة الخاصة للحرية في الاختيار الذي يؤدي به إلى الحقيقة. هذا التفسير الخاص للإسلام يحث الإنسان على اختيار مايحبه الله له، ولكن إذا لم يتمكن فإنه مازال يعمل وفق شروطه المكونة الأولى. وفي هذا السياق تظهر نتيجة بدهية وهي أن المسلم بالتقليد يتساوى في عدم ممارسة حريته ومعرفته للحقيقة مع الذين يؤمنون بعقائد أخرى. لأن المسلم بالتقليد هو شخص لم يختر بوعيه درب الحقيقة الأقصر ولم يدرك مايحب الله ويرضاه وإنما تصرف مثل أي شخص آخر غير مسلم بأن استسلم لشروطه التي كونته. وهذا يُذكرنا بكتابات الأشاعرة المبكرين كالبلاقلاني والجويني الذين كانوا يقولون إن أول واجب على المكلف (المسلم) هو النظر، أي المعرفة، قبل أي شيء آخر، لأن المعرفة فقط بوصفها تكليفاً دينياً هي التي تفصل بين من اقترب من الحقيقة ومارس حريته في اختيارها وبين من انساق لها دون فحص.

الثنائية الثالثة تشير إلى وحدة الجنس الإنساني في اعتقاداته الأساسية. إنها ثنائية توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. حيث يتفق البشر جميعاً على مبدأ واحد هو توحيد الربوبية حسب ماقال القرآن نفسه، ففي صورة رمزية جميلة أخذ الله من البشر ميثاقاً أجمعوا فيه على أن الله رب واحد لكل الكون، "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم، قالوا: بلى" (الأعراف: 172)، هذا الاعتراف يجعل البشر متساوين في الاعتقاد الأول، لدرجة يصير فيها التوحيد الأولي فطرة في الطبيعة الإنسانية. يقول ابن تيمية: "فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات سعيدها وشقيها،..المؤمن والكافر، البر والفاجر، والنبي والصادق والمتنبىء والكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، الملائكة والشياطين، فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية وهو أن الله ربهم...لا رب لهم غيره". (درء تعارض، ج. 9، ص. 344). ويذهب ابن تيمية ليؤكد تفسيره ذاك للأية إلى القول إن البشر لم يعرفوا في تاريخهم الإيمان بإلهين متساويين في كل شيء "وإن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم".

ولكن هذه الوحدة الإنسانية لا تلغي وجود اختلافات بين البشر في تفسير هذا الاعتقاد الأولي، إذ تنشأ اختلافات الناس في تفسير هذه الوحدة على درجات متباينة، لأن التوحيد الخالص أمر صعب، وحتى بعض المسلمين لم يتخلصوا من فهم متعثر للتوحيد، وقد كان الله يعلم أن معظم البشر على هذه الحال الشائكة من فهم التوحيد، وقد عبر عن علمه باختلاط التوحيد مع الشرك بالآية التي تقول: "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" (يوسف: 106). إن فكرة المصدر الواحد للعالم التي هي جزء من طبعنا الذهني يتم تأويلها بطريقة تفتح باب الإشراك بصوَر متعددة، فالذين يعبدون الأوثان كالعرب قبل الإسلام والذين يعبدون الكواكب والذين يعبدون عناصر الطبيعة رغم اتفاقهم على مصدر واحد للعالم إلا أن شيئا من الإشراك يدخل في فهمهم للتوحيد، لذلك يقترح ابن تيمية أن التوحيد الحقيقي الذي يناسب توحيد الربوبية الأول هو توحيد الألوهية، أي التوجه لله في العبادة مباشرة دون وسائط بين البشر وبينه. إننا هنا مرة أخرى أمام فكر يعترف بوحدة الجنس الإنساني في إدراكهم للحقيقة الأولى ويعترف بتعدد فهم الناس لهذه الحقيقة. لذلك جاء النداء الإلهي مطالباً البشر بتوحيده في ألوهيته كدرب أكثر قرباً للحقيقة الأصلية.

لقد عُرف عن ابن تيمية أنه كان متشدداً في تكفير الآخرين، وهذا حقيقي، ولكن من الخطأ الفادح أن نتوقف عند عباراته التكفيرية التي تأخذ طابعاً إنشائياً ولأسباب سياسية غالباً وننسى البنية التحتية النظرية لفكره القائمة على التسامح في جوهرها. إن أصل العالم خير، والشر عارض وطارىء، والكون والإنسان يعملان وفق مشيئة الله الكونية، فالكل مطيع لإرادة صارمة حتى لو كفر أحدهم وألحد واعتقد بأي اعتقاد كان، كما أن البشر كلهم مشتركون في حقيقة واحدة، واختلاف تأويلاتهم يبقى ضمن الحقيقة الأولى وإن كانوا سيدفعون ثمن جهلهم بالحقيقة الأصلية. كل ذلك يجعلنا نرى الجانب الآخر من فكر شيخ الإسلام، فهناك الكثير من نصوصه التي يكتبها وهو في حالة هدوء بعيد عن التأثيرات السياسية الصعبة التي عاشها، نجده يرفض أي شكل من أي أشكال التكفير ويعتقد ان التشوش في معرفة الحقيقة أمر طبيعي ويجب أن يُعذر الناس في ذلك.

ويبدو ابن تيمية مدركاً تماماً لما يكتب ويؤسس، لذلك نجده يتابع أفكاره حتى نهايتها ليصوغ في المحصلة فكراً متكاملاً على المستوى المنطقي. وفي هذا السياق يبرز السؤال الأخطر، وهو: أنه إذا كان أصل العالم خير وأن البشر لا يخرجون عن إرادة الله الكونية رغم ممارستهم لحرية الاختيار، وأن الجنس الإنساني متفق على المبدأ الفكري البدئي في أصل العالم، إذن لماذا العقاب الأخروي؟ وكيف نفسر العذاب الأبدي مع كل هذه الثنائيات والمقدمات النظرية؟

من بين عدة أقوال يرددها ابن تيمية يبدو في النهاية ميالاً إلى القول إن فكرة الأبدية في العذاب الأخروي لا وجود لها، وإن عقاب الله للبشر مؤقت يتناسب مع محدودية الشر الذي ارتكبوه، فعذاب الإنسان محدود بقدر طروء الشر على الخير، وبقدر جهله وعدم إدراكه لما يحب الله له، وبقدر وقوعه في الشرك مع إيمانه بالتوحيد. الإنسان يُعذَب لجهله وعدم ممارسة اختياره الحقيقي، وبسبب سوء تأويلاته للحقيقة الأصلية، لذلك سيكون عذابه مؤقتاً، إذ في النهاية ستُطفىء جهنم نارها وتغلق أبوابها يوما ما، ويعيش جميع البشر في نعيم أبدي. يقول ابن تيمية متحدثاً عن الله في كتاب النبوات: "كما جعل إطفاء النار طريقاً إلى رفع حريقها، وكما جعل الترياق طريقاً إلى دفع ضرر السم". وقد توسع تلميذه ابن القيم في شرح كيفية إطفاء النار بواحدة من أجمل النصوص في التراث الإسلامي، فقال إن الرحمة مرادفة للذات الإلهية بينما الغضب الإلهي عابر، وأنه من الصعب، بل من الخطا الفادح الاعتقاد أن الله يتلذذ بتعذيب البشر لمجرد تعذيبهم.

إن هدف الله من العذاب هو تطهير الإنسان من جهله وسلوكه السيء، والإنسان في النهاية كائن خير، ولا يستقيم الاعتقاد بتعطيل الرحمة الإلهية وبقاء الغضب إلى الأبد. ويستعين على ذلك بنصوص عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، اللذين اعتقدا أن جهنم ستصفق يوماً أبوابها ولايبقى إلا النعيم الأخروي. وهنا يبلغ فكر التسامح الإلزامي بين البشر ذروة الصياغة النظرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.