في خضم التقارير الإعلامية الأمريكية وغير الأمريكية عن انقلاب في السياسة الخارجية للولايات المتحدة للتعامل مع الأحزاب السياسية التي تتخذ من الإسلام مرجعية لها بدل مقاطعتها إثر الفوز الحاسم لهذه الأحزاب في انتخابات مصر وتونس والمغرب، والدور القيادي الذي تلعبه في الأردن واليمن وسوريا وليبيا والجزائر والصومال وغيرها، يبدو المشهد العربي مهيأ لوضع هذه الأحزاب وجماعة "الإخوان المسلمون" التي انبثق معظمها عنها أمام اختبار تاريخي يتمخض إما عن تبديد الخشية المبكرة للمفكر والقيادي في الجماعة سيد قطب من "إسلام أمريكاني... يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط" أو يتمخض عن نجاح الجهود الحثيثة للولايات المتحدة في اصطناع نسخة من "الإسلام السياسي" تستقوي بها على العرب والمسلمين. والحذر المتفائل من "أسلمة" المشهد العربي لخصه في مقال له مؤخرا عالم الدين والإعلامي اللبناني الشيخ جمال الدين شبيب، استهله باستذكار مؤلف بعنوان "إسلام أمريكاني" كتبه سيد قطب في أوائل عقد الخمسينات من القرن العشرين حذر فيه من أن "الأمريكان وحلفاؤهم يريدون للشرق الأوسط إسلاما أمريكانيا... ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان".نقلا عن العرب أون لاين.
ويبدو المشهد العربي، الشعبي في الأقل إن لم يكن الرسمي، يقول مع الشيخ شبيب: "أنا لست من دعاة "سوء الظن من حسن الفطن" فمن يعرف التربية الإخوانية لا يمكن أن يصدق ما يروج له البعض من أن الإخوان انخرطوا في حلف غير مقدس مع الإدارة الأمريكية على أن يخلي لهم الأمريكان طريق الحكم... مقابل التزامهم وضبط إيقاعهم في المنطقة وفق الأجندة الأمريكية". لكن استذكار الشيخ اللبناني لتحذير سيد قطب في مستهل مقاله يشي بخشية تضع الإخوان وأحزابهم فعلا أمام اختبار تاريخي لتبديد مثل هذه الهواجس، ولإثبات أن الممارسة السياسية من مواقع القيادة تتفق فعلا مع ما سماه "التربية الإخوانية".
ولهذه الهواجس مسوغات قوية في الواقع الراهن المتحرك وفي التاريخ القريب الحي على حد سواء. فإيصال قوى "الإسلام السياسي" إلى سدة الحكم على ظهور الدبابات الأمريكية الغازية في العراق أو على متن طائرات حلف الناتو الحربية في ليبيا أو بدعم وكلاء إقليميين للولايات المتحدة في الصومال أو انطلاقا من قواعد "عربية" للحلف أو لقيادته الأمريكية يثير أشجانا عربية تذكر بانحياز هذه القوى تحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي إلى المعسكر الأمريكي وأنظمة الاستبداد العربية التقليدية إبان الحرب الباردة خلال حقبة القطبين الأمريكي والسوفياتي الدولية عندما كانت حركة التحرر الوطني العربية، وبخاصة الفلسطينية، والحركة الديمقراطية العربية في المعسكر الآخر.
إن الوجه الإيجابي الآخر من المشهد الراهن الذي حملت فيه الثقة الشعبية عبر صناديق انتخابات نزيهة حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب وحزب الحرية والعدالة في مصر إلى مواقع القيادة في الأقطار العربية الثلاثة لا يمكنه أن يبدد هذه الهواجس، خصوصا عندما يرقب المشاهد العربي كيف أن ازدواجية معايير القوى العربية الإقليمية والدولية التي تدعم قوى الإسلام السياسي دعما انتقائيا ما زالت تحاصر حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي يمثل امتدادا لفكر الإخوان المسلمين، والقوى الاشتراكية والقومية والشبابية المؤتلفة معه في قيادة الحراك الشعبي اليمني، وتحول دونهم وجني ثمار نضالهم من أجل التغيير والإصلاح طوال عام مضى!! فهذه ازدواجية معايير تعزز الهواجس ولا تخفف منها، وتؤكد مجددا أن الإخوان وأحزابهم بخاصة موجودون اليوم على محك اختبار تاريخي يتطلب منهم إنهاء الوضع الذي يضعون فيه رجلا في هذا الخندق ورجلا أخرى في الخندق النقيض.
وتتعزز هذه الهواجس كذلك بالتصريحات الأمريكية التي "تطمئن" دولة الاحتلال الإسرائيلي بألا تخشى وصول قوى الإسلام السياسي إلى الحكم في مصر والمغرب وتونس.
ومع أن مجلس الأمن القومي لدولة الاحتلال، الذي يرأسه اللواء احتياط يعقوب عميدرور، مستشار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وصف موقف الرئيس الأمريكي باراك أوباما وإدارته من صعود الإخوان بأنه "ساذج" ويجب "إخراج" أوباما منه، أعطت وزارة خارجية دولة الاحتلال تعليمات لسفيرها في القاهرة يعقوب أميتي بفتح حوار وإقامة علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
وفي يوم الخميس الماضي صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند، بأن الجماعة قدمت "ضمانات" و"قطعت تعهدات" باحترام المعاهدة مع دولة الاحتلال؛ وقد نفت الجماعة ذلك، علما أن اللقاءات الأمريكية مع الإخوان لا تتم "عن طريق السفارة أو الخارجية" المصرية ولكن من خلال الاتصالات المباشرة"، كما قال السفير المصري في واشنطن، سامح شكري، الذي فسر عدم صدور تقارير رسمية من الولاياتالمتحدة عن تلك اللقاءات "يعني أنها ربما حصلت على تطمينات من جماعة الإخوان المسلمين".
وكان السناتور الأمريكي جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في الكونغرس، قد اجتمع مؤخرا مع مسؤولي حزب الحرية والعدالة المصري وقال إن قادة الإخوان من خلال هذا الاجتماع أكدوا له حرصهم على العمل مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى وبخاصة في المجال الاقتصادي.
وإذا صدقت التقارير الأمريكية عن تقديم "ضمانات" و"تطمينات" و"قطع تعهدات"، فإن الإخوان في مصر سرعان ما يجدون أنفسهم في مواجهة مع رأي عام شعبي مصري رفض أن يذعن للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بالرغم من سطوة استبداد نظام كامب ديفيد وكان دائما يحمل الولاياتالمتحدة المسؤولية عن الأوضاع في مصر لرعايتها اتفاقيات الكامب والنظام السياسي- الاقتصادي الذي أفرزته. فحسب استطلاع للرأي أجراه معهد أبحاث أمريكي ونشرته "بلومبرغ بزنس ويك" مؤخرا فإن "54 بالمئة" من المصريين يتمنون فسخ معاهدة الصلح مع دولة الاحتلال الإسرائيلي و"36 بالمئة" منهم يريدون تعديلها.
وفي الواقع العملي، لن تستقيم أي علاقات عربية أو إسلامية مع الولاياتالمتحدة دون تكيف حد أدنى مع ضماناتها الاستراتيجية لأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتوجد قناعات راسخة في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي بحكم التجربة بوجود تناقض بين إقامة علاقات حتى عادية مع الولاياتالمتحدة وبين الاستمرار في موقف عدائي تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ويتضح هذا التناقض اليوم بين "التربية الإخوانية" لأحزاب الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في المغرب وتونس ومصر وبين العلاقات الاستراتيجية القائمة بين هذه الأقطار العربية الثلاثة وبين الولاياتالمتحدة، ليتحول موقف هذه الأحزاب وموقف الحكومات التي تقودها من الولاياتالمتحدة إلى محك اختبار لصدقية خطابها، وبخاصة في الشأن الفلسطيني على وجه التحديد، فهي مخيرة عمليا الآن بين التخلي عن خطابها الفلسطيني التقليدي وبين التخلي عن العلاقات الاستراتيجية لحكومات الأقطار العربية التي تقودها مع الولاياتالمتحدة.
وعلى سبيل المثال، أعلن الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي خالد السفياني مؤخرا أن حزب العدالة والتنمية الذي يقود الائتلاف الحكومي الجديد في المغرب بعد الانتخابات الأخيرة أن هذا الحزب "ظل ارتباطه راسخا بالقضية الفلسطينية، ومناهضا لمسار التطبيع" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مضيفا أن هذا الموقف "سيستمر من موقع المسؤولية الحكومية، وسيتكامل مع الموقف الشعبي المغربي". لكن من المؤكد أن العلاقات المغربية الأمريكية الاستراتيجية التي فرضت على المغرب القيام بدور محوري رئيسي في التوسط بين الدول العربية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي وفرضت على حكوماته المتعاقبة مستوى من التطبيع الرسمي لم يرق إليه حتى الآن مستوى التطبيع الرسمي في مصر والأردن اللتين وقعتا معاهدتي صلح منفردتين مع دولة الاحتلال، هي علاقات عريقة ووثيقة أقوى بكثير من أمنيات ذاتية في أن يواصل حزب العدالة والتنمية "من موقع المسؤولية الحكومية" مناهضته للتطبيع، ليرتقي بهذه المناهضة من المستوى الشعبي إلى المستوى الرسمي، ولن يمضي وقت طويل قبل أن يجد هذا الحزب بدوره نفسه على محك اختبار لصدقية خطابه الفلسطيني.
إن مؤشرات مثل تحول جماعة الإخوان المسلمين إلى القوة الضاربة الرئيسية للولايات المتحدة في سوريا، تطالب بتدخلها وحمايتها، وتحظى بدعمها المالي والسياسي واللوجستي، من خلال "المجلس الوطني الانتقالي السوري"، الذي يمثل الإخوان عموده الفقري، والذي أعلن رئيسه برهان غليون تبنيه لجدول الأعمال الأمريكي الإقليمي في محوريه الفلسطيني والإيراني في حال وصوله إلى السلطة، في حواره الأخير مع صحيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية، وهو الحوار الذي لم يختلف في محتواه عن المحاضرة التي ألقاها مؤخرا في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، الذي ترعاه "ايباك"، جماعة الضغط الصهيونية الرئيسية في الولاياتالمتحدة، راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية، الذي قال في سوريا ما لم يقله أبدا حتى الآن في دولة الاحتلال الإسرائيلي، تضامنا مع الشعب السوري كما قال، لكن تضامنه هو في أفضل الحالات تعبير عن تضامن "إخواني" حزبي لا علاقة له بالتضامن مع الشعب السوري...
إن مؤشرات كهذه تعزز ولا تخفف من الهواجس التي تثيرها التقارير التي تتحدث عن تفاهمات بين "الإخوان" وبين الولاياتالمتحدة.
إن امتداد "الإخوان" في العراق قد تحول تحت مظلة الاحتلال الأمريكي إلى شريك في "العملية السياسية" التي هندسها الاحتلال لربط العراق استراتيجيا بالولاياتالمتحدة لفترة طويلة مقبلة، وتحول بوعي أو دون وعي إلى قطب طائفي ساهم في استفحال الفتنة الطائفية التي اتخذ الاحتلال منها ذريعة لإطالة عمره، وهو يصطف الآن في الخندق الأمريكي.
وإذا كان الاصطفاف الطائفي السياسي الراهن بين النفوذ الإيراني وبين النفوذ الأمريكي في العراق نموذجا مصغرا لما سيكون عليه التخندق السياسي بين النفوذين على امتداد مساحة الوطن العربي، فإن صعود الإخوان وقوى الإسلام السياسي ينذر بالتحول إلى فتنة طائفية كبرى بين "إسلام أمريكاني" يفرق صفوف المسلمين ويعزز هيمنة الأجانب على قرارهم وثرواتهم، "إسلام" حذر منه سيد قطب قبل ما يزيد على نصف قرن، وبين "الإسلام الذي يقاوم الاستعمار... والطغيان" الذي كان دائما عنوانا لوحدة العرب وغيرهم من المؤمنين، لا يفرق بين واحدهم والآخر إلا بالتقوى.
وتقف حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في فلسطينالمحتلة تجسيدا لل"إخوان" فيها، لا يشوبها أي من شوائب التناقض بين الخطاب والممارسة، وقد خاضت فعلا اختبار صدقية خطابها ونجحت فيه، وهي تضع كلتا رجليها في خندق واحد وحيد لمقاومة الاحتلال والهيمنة الأمريكية، ولا تساورها أية أوهام حول احتمال مستحيل للفصل بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين راعيها الاستراتيجي الأمريكي، وهي عندما خيرت بعد وصولها إلى السلطة إثر فوزها في انتخابات نزيهة بين التخلي عن خطابها الفلسطيني التقليدي وبين التخلي عن العلاقات الاستراتيجية لرئاسة منظمة التحرير الفلسطينية مع الولاياتالمتحدة لم تتردد في الانسجام مع "التربية الإخوانية" التي أنشأت كوادرها عليها.
وتجسد حماس الآن رمزا فريدا للوجه الإيجابي لصعود قوى الإسلام السياسي، وتخوض اليوم اختبار الأزمة السورية لصدقية خطابها، فلا تتردد في الاختلاف مع "إخوانها" السوريين ومن شايعهم من "الإخوان" العرب، في معارضة التدخل الأجنبي، والحلول غير السلمية، في خضم حملة تشكيك تحريضية واسعة تقترن فيها "العصا والجزرة" تؤلبها على سوريا، مما اضطر فوزي برهوم، الناطق باسم الحركة، للتصريح بأن هناك "أطرافا" لم يسمها "تسعى لتوتير العلاقات بين حركة حماس وسوريا".
وبالرغم من تفاؤلها بأن "تقدم الإسلاميين في مصر وعددا من الدول العربية سيكون ظهيرا وداعما للقضية الفلسطينية واستعادة حقيقية للعمق العربي الإسلامي"، و"السياج الواقي والحامي للقضية الفلسطينية"، كما قال الناطق باسم حماس فوزي برهوم، فإن الحصاد السياسي لم يحن بعد كما يبدو، لأن "الدول العربية التي تشهد ثورات في حالة عدم وضوح ولا يمكن التعويل عليها في دعم الخطوات الفلسطينية في المحافل الدولية"، كما يرى د. أحمد يوسف المستشار السياسي لرئيس الوزراء الفلسطيني في قطاع غزة إسماعيل هنية. ولا ريب في أن خشية سيد قطب من "إسلام أمريكاني" عامل أساسي يساهم في "عدم الوضوح" في هذه الدول.