أثارت مبادرة الأزهر الشريف التي أعلن عنها مؤخرا الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب في صورة "مشروع قانون مكافحة الكراهية والعنف باسم الدين" اهتماما كبيرا بين المثقفين المصريين. ويأتي مشروع القانون في سياق جهود الأزهر الشريف لمكافحة العنف والتطرف فيما يسعى لنشر الخطاب المستنير ويؤكد على قيم المواطنة والتسامح والتصدي لكل ما من شأنه اثارة الأحقاد والكراهية وتهديد العيش المشترك بين ابناء الوطن الواحد. وأعرب وزير الثقافة الكاتب حلمي النمنم عن سعادته باعلان الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر عن اعداد مشروع قانون لمكافحة الكراهية. مؤكدا أن تجديد الخطاب الديني مسؤولية المجتمع ككل وتتطلب مشاركة علماء الدين والاجتماع والمشرعين القانونيين. وفي مقابلة تلفزيونية بثت مؤخرا ، قال النمنم إن نشر الأعمال الفنية والكتب الأدبية على نطاق واسع يشكل أحد سبل التجديد. لافتا الى أن "عدم تجديد الخطاب الديني يدفع ثمنه المجتمع بأكمله". اذ يؤكد الخطاب الرسمي المصري عبر مضامين متعددة أن افكار وممارسات التطرف والارهاب موجهة في الحقيقة ضد جوهر الدين الحنيف ، فان هذه الظاهرة تفرض قضايا ثقافية بالدرجة الأولى. وتتفق جمهرة المثقفين في مصر على أن تجديد الخطاب الديني يعني التمسك بثوابت الدين مع مواجهة الأفكار الخاطئة والمفاهيم الغلوطة التي انتجها اشخاص في عصور مختلفة وباتت تشكل اسنادا لجماعات التطرف والارهاب. وهكذا يقول الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي إن "اركان الدين وأصوله ثابتة لا تتغير ولا تتحول من عصر الى عصر آخر" وتجديد الخطاب الديني "لايعني اعادة النظر فيما نؤمن به من الأصول والأركان". وأوضح حجازي أن "الخطاب الديني ليس كلاما في الدين وانما كلام في الدنيا من وجهة نظر دينية وبما ان شؤون الدنيا تتطور وتتغير ولأننا أعلم بشؤون دنيانا كما قال لنا الرسول في حديثه المشهور فالخطاب الديني لابد وان يتجدد ويتطور بالرجوع الى مقاصد الدين ومثله العليا ". ويتفق الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي مع الرأي الذي يؤكد أن "تجديد الخطاب الديني مسألة حياة أو موت" . موضحا أن القضية تكتسب كل هذه الأهمية من ضرورتها في مواجهة الارهاب والارهابيين الذين يهددون الحياة. وإذا كان الارهاب يعبر عن ثقافة ظلامية فهناك حاجة لثقافة التنوير التي تتضمن تجديد الخطاب الديني وهي مسألة ترجع كما يقول أحمد عبد المعطي حجازي الى بداية النهضة الحديثة منذ قرنين حيث نادي مثقفون بتجديد الخطاب الديني. ومن قبل لفت حجازي مرارا الى أهمية "التمييز الحاسم بين الدين وبين الخطاب الديني" وليذهب الى أن "الحوار الدائر حول الخطاب الديني لم يبدأ اليوم وانما بدأ في اللحظة التي انتقلت فيها مصر من حال كانت تواصل فيه حياتها الموروثة من العصور الوسطى وتحتكم فيه لثقافة هذه العصورالى حال اخرى تغيرت فيه حياتها تغيرا جوهريا وتغيرت ثقافتها ". وقال حجازي :"في الخطاب الديني الجديد نعود للأصل أي للجوهر الباقي, نستلهم مافي الاسلام من طاقات روحية لاتنفد ومثل عليا صالحة لكل زمان ومكان واجابات عن اسئلة الحاضر اكثر بكثير من الاجابات التي قدمها لاسئلة الماضي واقرب الى روحه". ونوه بأن الأزهر مؤسسة علمية عريقة فيما تولى مشيخته علماء كبار جمعوا ما بين الثقافة العربية الاسلامية والثقافة الغربية من امثال مصطفى المراغي وومصطفى عبد الرازق وأحمد الطيب وظهر فيه مثقفون يطالبون بالتجديد ويدافعون عن العقل وينحازون للديمقراطية من امثال علي عبد الرازق وخالد محمد خالد. واذ يشيد بدور ورموز الأزهر الشريف وينطلق من مفهوم يربط بين الخطابين الديني والثقافي وفحواه أن "قضية تجديد الخطاب الديني تحتاج الى مناخ ثقافي وفكري يعيد للثقافة المصرية قيمتها ودورها التاريخي" ، يرى الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة ان تجديد الخطاب الديني "جزء من قضية اهم واخطر وهي واقع الثقافة المصرية " معتبرا ان هذا الواقع الثقافي "عانى من التراجع وغياب القضية وفقدان الهدف والهوية". وفيما يؤكد "خطأ الفصل التعسفي" بين قضايا الخطاب الديني والثقافة يعيد جويدة للأذهان دور ثلة من المثقفين المصريين في خدمة القضايا الدينية استنارة واجتهادا معددا بعض الأسماء مثل عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد "صاحب العبقريات والدراسات عن شخصيات ورموز اسلامية عظيمة" والتي كانت في جوهرها حوارات في الفكر والتاريخ والقيمة" وكذلك كتابات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والمفكر خالد محمد خالد والأديب عبد الرحمن الشرقاوي فضلا عن العالم الأزهري والأديب امين الخولي والدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطيء". ولم يكن من الغريب ان تكون الثقافة المحمدية الأصيلة برؤاها الثرية وابعادها المتراكبة نبع الهام لكثير من المبدعين والمفكرين في العالم ومن بينهم في مصر على سبيل المثال أمير الشعراء احمد شوقي صاحب قصيدة "ولد الهدى فالكائنات ضياء" ، ناهيك عن المفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ، فضلا عن آباء ثقافيين مثل الدكتور محمد حسين هيكل وعبد الحميد جودة السحار. وأوضح الشاعر والكاتب في جريدة الأهرام فاروق جويدة أن "هؤلاء جميعا كانوا يناقشون القضايا الدينية كقضايا فكر وانسان ولهذا كانت افكارهم اكثر سماحة واوسع افقا من هؤلاء الذين انحصرت افكارهم في خنادق فكرية مغلقة ومظلمة" فيما يعتبر ان الثقافة المصرية في واقعها الراهن وبعد رحيل هذه النخبة من الرموز الثقافية "افتقدت هذه الرؤى الشاملة في قضايا الدين". ومع ذلك رأى جويدة ان الثقافة المصرية التي تقوم على ثوابت تاريخية يمكن ان ننطلق منها الى واقع ثقافي أفضل "فهناك مكتبات عريقة وجامعات صنعت التاريخ وهناك مبدعون كبار لابد ان نحملهم بعيدا عن ساحات التهميش والتجاهل وهناك نماذج رفيعة في انشطة ثقافية مضيئة وناجحة". مؤكدا أهمية تفعيل دور قصور الثقافة الجماهيرية والاهتمام بأنشطتها. وفي سياق التعليق على مبادرة الأزهر ومشروع قانون مكافحة الكراهية والعنف باسم الدين ، اعتبر مثقف مصري اخر هو الدكتور أسامة الغزالي حرب أن "المشكلة الجوهرية التي تواجه مجتمعنا والعالم كله هي مشكلة الارهاب الأسود باسم الاسلام" ، وهي مشكلة تعطي دفعة قوية للدعوة الى تجديد الخطاب الديني والتي اهتم بها مثقفون مثل الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل. وفي سياق قضايا تجديد الخطاب الديني ، يلفت الكاتب الدكتور عمرو عبد السميع الى اهمية كتاب جديد لعالم الاجتماع الدكتور احمد زايد صدر مؤخرا بعنوان "صوت الامام..الخطاب الديني من السياق الى التلقي". وقد يتفق بعض ماورد في هذا الكتاب الجديد مع المفهوم الذي طرحه الكاتب والشاعر فاروق جويدة حول الارتباط الوثيق بين الخطابين الديني والثقافي حيث يخلص الدكتور احمد زايد الى اهمية "تجديد العقل والثقافة كوسيلة لتجديد الخطاب الديني". وفيما وصف الدكتور عمرو عبد السميع هذا الكتاب الجديد "بالمهم للغاية والذي يضع ايادينا على الفهم الصحيح لتجديد الخطاب الديني" ، كان مثقف مصري احر هو الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق وصاحب كتاب "التنوير والدولة المدنية" قد نوه بأن العديد من اعلام الأزهر هم تنويريون بالمعنى الذي يقرن التنوير بأعمال العقل كما يقول الامام محمد عبده مؤكدا أن اعمال العقل لايتناقض مع النص الديني. وشدد عصفور على أن الأزهر الشريف "انتج الحركة الأولى للثقافة والتنوير" . منوها بأن الأزهر يرأسه "شيخ جليل واسع الأفق لايكف عن اداء دوره التنويري الذي يؤكد القيم العقلانية للفكر الاسلامي ويمضي في السنة الحميدة التي تواصل فتح ابواب الاجتهاد". وأشار الى ان الاختلاف في الرأي "لازمة من لوازم فتح ابواب الاجتهاد" ، فيما أكد أن "جموع المثقفين ترى في الأزهر حصنا امينا للاسلام الوسطي المستنير". واذا كانت اشكاليات مواجهة الفكر المتطرف والمجافي للوسطية الاسلامية كما تجلت في رسالة الحبيب المصطفى للعالمين ليست وليدة اليوم فلعلنا بحاجة لقراءة جديدة في تراث مضيء لأعلام الدعاة وكوكبة من علماء الأزهر الشريف وفي طليعتهم الإمام الدكتور عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والامام جاد الحق علي جاد الحق والدكتور احمد حسن الباقوري. واذ يطالب الكثير من المثقفين المصريين "بتحديث الخطاب الديني واعلاء قيم التنوير والاجتهاد الحر" متفقين على اننا بحاجة الى "ثورة فكرية لمواجهة الارهاب الذي يبدأ بدوره من الأفكار" فان جمهرة المثقفين يدركون ايضا ان الأزهر الشريف بمقدوره القيام بتلك المهمة اتساقا مع دوره العظيم كمنارة ايمانية لها مكانة سامية في قلوب المصريين وعلى مستوى العالم الاسلامي ككل . وقد يقع جانب كبير من تلك المهمة على عاتق التلفزيون الوطني باعادة بث هذا التراث العزيز على الشاشة التي يتابعها ملايين المشاهدين وهم في سوادهم الأعظم يتشوقون لأحاديث وشروح تلك الكوكبة المضيئة من العلماء والمفكرين والآباء الثقافيين ورموز الوسطية من دعاة استوعبوا رسالة خاتم الأنبياء والرحمة المهداة لكل البشر. ومن هنا يرى العديد من المثقفين ان على التلفزيون بحكم تمتعه بقاعدة كبيرة وعريضة من المتلقين الامساك بزمام المبادرة بين وسائل الاعلام المختلفة واعداد باقة من البرامج التي تحقق الاستفادة المثلى من تراث تركه لنا علماء ودعاة كبار كان بمقدورهم التعامل مع اعقد القضايا الفكرية والانتصار لصحيح الاسلام وجوهر رسالة الحبيب المصطفى. ومشروع كهذا هو في الواقع مشروع اعلامي-ثقافي يخدم القاعدة العريضة من الجماهير في مصر والعالم العربي بقدر مايكشف شطط وانحراف جماعات التطرف وتنظيمات الارهاب التي تتخفى وراء شعارات دينية فيما تروع الأمة بممارساتها الباغية وتخدم اعداءها واجندات قوى الشر الرامية لمزيد من تمزيق العالم العربي والاسلامي. وفيما اعاد الكاتب والشاعر الكبير للأذهان كتابات الدكتور نظمي لوقا عن رسول الاسلام ، حق لهذا المثقف المصري ان يتحدث عن ظاهرة غريبة ومريبة مثل مايسمى "بتنظيم داعش" وان يقول :"ولم يكن غريبا ان تستدعي داعش كل التاريخ الدموي في الذاكرة العربية والاسلامية ابتداء بتاريخ الخوارج" فيما رأى ان هناك ترتيبات تجرى في الخفاء منذ سنوات لاشعال الفتن. وثمة طروحات عديدة لمثقفين مصريين توضح ان الحرب على الارهاب تثير الكثير من القضايا الفكرية والثقافية والحضارية التي تتجاوز جوانبها الأمنية فيما تدرج تلك القضايا اجمالا تحت عنوان"التنوير والنهضة"..والآن يؤيد هؤلاء المثقفون المبادرة الجديدة للأزهر الشريف ويقف الجميع في جبهة واحدة دفاعا عن صحيح الدين وانتصارا للتنوير والنهضة..انها حرب تقودها مصر لدحر هجوم الفجيعة والظلام .