سواء داخل قصر الرئاسة أو خارجه، عاش فاتسلاف هافل حياته بصدق فيما تنطوى تجربة هذا المثقف التشيكي الكبير الذى فقدته الإنسانية مؤخرا على نوع من الاجابة لاشكالية المثقف والسلطة. وتقول مجلة "نيويوركر" إن فاكلاف هافل كتب عليه أن يعيش فى ظل النظام الشمولي "كشخصية كافكاوية" من تلك الشخصيات التى أبدعها فرانز كافكا، حيث العبث هو الذى يحكم لا القانون والأهواء هى التى تتحكم فى أقدار البشر لا العقل والكفاءة". غير أن هافل- كما توضح "النيويوركر"- لم يستسلم لارادة الطغيان وقرر بهدوء وحسم خوض معركة طويلة انتهت بثورة ضد النظام الشمولى وجاءت بهذا المثقف الكبير لقصر الرئاسة، فيما لم تغير مظاهر الحكم وأبهة السلطة من جوهر الكاتب المسرحي المبدع الذى لم يتخل أبدا عن تذوقه للنكتة، كما لم يتخل عن ابتسامته المتعاطفة مع الإنسان إينما كان أو إيمانه بسلطة الكلمة الصادقة.
إشكالية المثقف والسلطة
وتبدو إشكالية المثقف والسلطة جلية وتثار من حين لآخر كما حدث فى حالة الكاتب والرئيس التشيكى الراحل فاتسلاف هافل الذى تعرض لهذه الاشكالية فى مذكراته التى تناولت سنوات وجوده فى السلطة. وتولى الكاتب المسرحى فاتسلاف هافل الذى ولد عام 1936 ووصف بأنه "قائد الثورة المخملية" منصب الرئاسة مرتين الأولى لجمهورية تشيكوسلوفاكيا منذ اواخر عام 1989 حتى استقالته من هذا المنصب فى شهر يوليو عام 1992 بعد تقسيم البلاد، والثانية عندما أصبح رئيسا لجمهورية التشيك الجديدة فى عام 1993 حيث استمر فى منصبه الرئاسى هذه المرة لعقد كامل .
والطريف أن هافل اعترف فى محاضرة عامة بأنه كلما مر عليه يوم جديد فى الرئاسة كلما شعر بمزيد من الخوف من أنه قد لايكون جديرا بهذا المنصب تماما كما أنه كلما جلس ليكتب خطابا جديدا يخشى من أن يكرر نفسه وألا يكون لديه جديد يقوله، ومع ذلك فثمة اتفاق عام بين مواطنيه وحتى فى الخارج على أن هافل كان رئيسا قديرا كما هو كاتب ومسرحي عظيم . واختار هافل عنوانا طريفا لمذكرته وهو :" باختصار من فضلك" والتى تعرض فيها لقضايا شائكة ومثيرة للجدل من بينها نزاعه مع فاتسلاف كلاوس الذى عمل رئيسا لحكومة التشيك فى فترة رئاسته للجمهورية ثم خلفه فى المنصب الرئاسى . وكان الخلاف بين الرئيس الأديب الراحل فاتسلاف هافل ورئيس فاتسلاف كلاوس تحول إلى قضية خطيرة شغلت الرأى العام التشيكى فى أول عقد للجمهورية الجديدة بعد سقوط النظام الشيوعى. وكخبير له رؤى اقتصادية ومالية ذات ملامح موغلة فى الرأسمالية وكمسؤول عمل كوزير لمالية تشيكوسلوفاكيا قبل أن يتولى منصب رئاسة حكومة جمهورية التشيك، عمد فاتسلاف كلاوس لفرض هذه الرؤى وتشجيع الخصخصة بشدة فى الجمهورية الجديدة فيما كانت المشكلة الحقيقية فى التطبيق حيث انتشر الفساد بصورة غير مسبوقة. وازداد الخلاف حدة بين الرئيس الأديب ورئيس الحكومة الخبير وامتد للمجال السياسى عندما اتجه فاتسلاف كلاوس للانشقاق على "تجمع المنتدى المدني" كحركة ديمقراطية جامعة تمكنت بقيادة فاكلاف هافل من القيام بدور فاعل أثناء الثورة المخملية فى نهاية عام 1989 وإقصاء الحزب الشيوعى الشمولى عن السلطة وتشكيل الحزب الديمقراطى المدنى الذى نال غالبية فى الانتخابات البرلمانية.
أكثر ليبرالية
وكان هافل أكثر ليبرالية على الصعيد السياسى ويتبنى كرئيس ثقافة سياسية جديدة ترتكز على التنوع وحق الاختلاف مع الانحياز اقتصاديا للفئات المحدودة الدخل والمتضررين من الخصخصة وكانت شخصيته مختلفة تماما عن شخصية رئيس حكومته، فهو متواضع وخجول بينما فاتسلاف كلاوس معتد بذاته ومستعد دوما للصدام مع الآخرين ومن ثم كان لابد من الصدام والفراق بين الرجلين. وبقلم جرىء يدمى خصومه خلافا لشخصيته الخجولة، تعرض هافل فى مذكراته التى صدرت بعنوان "داخل قصر الرئاسة وخارجه" لهذا الخلاف الحاد مع رئيس حكومته، معتبرا أن فاتسلاف كلاوس وفريقه أشبه "بالمجوهرات المزيفة أو الفالصو". والواضح من هذه المذكرات أن السياسة شدت هافل بعيدا عن الكتابة والفن كما أن نفسه كانت مفعمة بالمرارة من فاكلاف كلاوس الذى تولى فيما بعد منصب الرئاسة وهو وإن كان يدرك مقتضيات السياسة وألاعيبها ومكائدها فإنه ككاتب ليس بمقدوره التخلى عن الضمير أو التنازل من أجل البقاء فى السلطة. ومن هنا فإن هذه المذكرات تجسد على نحو ما اشكالية المثقف والسلطة وهى اشكالية مطروحة فى العالم كله فيما باتت تفرض نفسها على الساحة المصرية مع انخراط مثقفين فى العمل السياسى ودورهم فى ثورة 25 يناير.
ولن ينسى التاريخ ولا ذاكرة القارة السمراء أن ليوبولد سنجور أول رئيس للسنغال وأحد أهم المفكرين الافارقة والاديب والشاعر العالمى الشهير قد تنازل عن منصب الرئاسة بمحض ارادته. أما الكاتب والرئيس التشيكى الراحل هافل فيثق فى حكم الشعوب والتاريخ مهما كانت المغالطات ومكائد الخصوم السياسيين . كما لن ينسى تاريخ الأدب تلك الرسائل التى كان فاتسلاف هافل يبعث بها من السجن لزوجته اولجا هافلوفا والتى وصفت بأنها "من أجمل رسائل الحب" رغم أنه طلقها بعد وصوله لمنصب الرئاسة ليتزوج من ملكة جمال براغ!. وفى تلك الرسائل التى تحولت الى كتاب بعنوان "رسائل لأولجا" ونشر بالانجليزية عام 1983، تحدث هافل بقلمه المبدع عن عذابات السجن وبشاعة المحققين ونازية السجانين فى ظل نظام استبدادى، فيما قدر له أن يشرح فى اطروحة بعنوان دال وهو : "قوة الذين لاحول لهم ولاقوة" السبل التى تمكن بها المستضعفون والمهمشون فى ظل النظام الشمولى الاستبدادى فى الاتحاد السوفيتى السابق من إلحاق الهزيمة تدريجيا بنظام اتسم بالجبروت. ولاحظت مجلة "نيويوركر" أن فاتسلاف هافل قضى فى الشهر الذى يتزامن مع الذكرى ال20 لانهيار الاتحاد السوفييتى، معتبرة أن "هذا البرجوازى الخجول والكاتب المسرحى الماكر والقليل الكلام وصاحب الدراسات الأدبية والمقالات الثرية" كان من أقوى وأهم الأصوات التى أفضت لتقويض دعائم الاستبداد وإسقاط المنظومة الشمولية الشيوعية. وواقع الحال أن فاتسلاف هافل اعتبر سلطته كرئيس وكمثقف مسؤولية جسيمة حيال مواطنيه فى المقام الأول، حتى قضى بسرطان الرئة الذى اصيب به منذ عام 199، ليودع العالم رجلا عاش حياته بصدق وقاوم الزيف والكذب والطغيان حتى الرمق الأخير.