ليس غريبا على الشعوب العربية أن ترى جامعتها وهي تعطي المهلة تلو الأخرى للنظام في سوريا، بالرغم من مقابلة هذه المهل بعمليات القتل والتعذيب التي يرتكبها الجيش السوري وقوى الأمن والشبيحة بحق المتظاهرين الذين يطالبون بالحرية والكرامة، مسوغين بشعار "الموت ولا المذلة". فالقاصي والداني في هذه الأمة بل وفي العالم أجمع، يعلم أن الجامعة العربية تعبر عن اتجاهات عدد من رؤوس النظام الرسمي العربي ومواقفهم السياسية من قضايا الأمة العربية وشعوبها، والذين يعتقدون أن سقوط "نظام الأسدين" في دمشق، يعني تَحوُّل عواصف التغيير التي تهب بقوة على المنطقة نحو أنظمتهم لتسقطها، كما يعتقدون أن قمع الثورة التي تشهدها سوريا الآن، يعني تأمين وجود حائط صد يأملون أن يقف أمام وصول هذه العواصف إليهم.
منذ أيام قليلة وقَّعت الجامعة والنظام السوري على بروتوكول المراقبين الذي يتيح إرسال عدد من المراقبين، يصل لنحو خمسائة مراقب بحسب تصريحات أمين عام الجامعة، كي يعملوا على تنفيذ بنود المبادرة العربية التي أهم ما تنص عليه، سحب الجيش السوري بآلياته وعتاده من المدن والقرى السورية، وعدم تعرض قوى الأمن للمتظاهرين.
وقد بررت مبادرتها تلك، بأن الشعب العربي يريد حل الأزمة بصورة تدرأ أخطار التدخل العسكري الدولي، الذي سيعرض استقرار سوريا وسلامتها ووحدتها ودماء أبنائها للخطر، فضلاً عن التوابع السلبية التي يمكن أن يتركها مثل هذا التدخل على المنطقة باسرها.
ولسنا نفهم كيف اقتنع وزراء الخارجية العربية بأن مبادرتهم هذه يمكن أن يلتزم النظام السوري بتنفيذها. فهم يعلمون جيداً أن حل الأزمة السورية بالتوافق بين النظام والشعب السوري الثائر بات أمراً مستحيلا، وأن هذا الحل لن يتم إلا بتغلب حاسم لأحد الفريقين على الآخر.
ألم يدرك هؤلاء الوزراء أن المهل التي منحوها للنظام السوري، كان يستخدمها في كسب الوقت، اعتقاداً منه أنه يتيح له الفرصة تلو الأخرى لتكثيف استخدامه العنف ضد التظاهرات، بهدف قمعها وإرضاخ الشارع السوري الثائر لحكمة الجائر المستبد؟!!.
ألم يسمعوا أن النظام السوري قد اغتال ما لا يقل عن ألفي شهيداً من المتظاهرين والمدنيين، منذ طرحت المبادرة العربية لحل الأزمة السورية؟، كما اغتال ما لا يقل عن الثلاث مائة شهيداً منذ التوقيع على بروتوكول المراقبين، والذين يفترض أنهم سيراقبون تنفيذ المبادرة العربية بشأن حل الأزمة السورية التي باتت تستحق تسميتها ب"المعضلة"؟.
ألا يعلم هؤلاء الوزراء، أن النظام السوري قرر- منذ بداية الثورة- استخدام كل ما يملك من سلاح وعتاد لقمع المظاهرات؟!!، وهل يجهلون أن هذا النظام قد اغتال أكثر من خمسة آلاف شهيداً من المتظاهرين والمدنيين السوريين بحسب تقديرات الهيئة الأممية؟!!.
ألا يعلم وزراء الخارجية العرب أن عدد المعتقلين في سجون النظام يزيد عن الاثنى عشر ألفاً .. لا يستثنى منهم النساء والأطفال؟!! ألم يروا الجرائم البشعة التي يرتكبها الجيش وقوى الأمن السورية والشبيحة بحق المتظاهرين .. حتى يتيقنوا من أن هذا النظام بات مصمما على الذهاب حتى النهاية في استخدام القوة المغلظة ضد الشعب؟!!. هذا هو حال "نظام الأسدين" وموقفه من مطالبة الشعب السوري بالعدالة والحرية والعيش بكرامة منذ أربعين عاماً، والذي يبرهن في كل لحظة تمر أنه (أي نظام الأسدين) لن يسمح للشعب الثائر بتحقيق طموحاته مهما كلف الأمر.
في المقابل، ألا يعلم وزراء الخارجية العرب أن الشعب السوري قرر- هو الآخر- الذهاب في ثورته ونضاله ضد المستبدين الفاسدين والمفسدين حتى النهاية، مهما كلفه ذلك من تقديم المزيد من الشهداء .. ومهما قاسى من عذابات قاتلة على يد عصابات هذا النظام؟.
وما دام الأمر قد وصل- هكذا- إلى نقطة اللا عودة التي لا تسمح لأي منهما بلوغ غاياته إلا إذا قضى على الآخر .. نقول ما دام الأمر كذلك، فلماذا يُقٌدِم وزراء الخارجية على تقديم هكذا مبادرة، وهم يعلمون جيداً أن النظام السوري لن يقبلها؟!!، ويعلمون (أيضاً) أن قبوله بها يعني- منطقيا وواقعيا- تسليمه بانتصار الشعب الثائر عليه.
ألم يدركوا بعد، أن هذا هو ما يفسر قبول النظام السوري بالمبادرة العربية؟، كما يفسر "لفَّه ودورانه" لكسب المزيد من الوقت أملاً في قمع التظاهرات والاحتجاجات التي تجري صباح مساء، وفي كل مدن سوريا وقراها وضياعها وريفها .. حتى يبرر للجامعة العربية وللعالم، أن الأمور بدأت تهدأ، وأن لا حاجة لطرح المبادرات من أي جهة ومن أي نوع، لحل الأزمة؟!!.
ثم .. لماذا نذهب بعيدا ونحن نواجه سؤالاً أحسب أنه لم يبرح عقل ووجدان مواطن عربي واحدٍ وهو: متى استطاعت الجامعة العربية أن تحل أياً من قضاياها المصيرية؟ .. وهل استطاع أعضاؤها تفعيل المواثيق التي تملاً أضابير إرشيفها في كل المجالات وبخاصة مجال الأمن القومي العربي؟ .. بل والأمرُّ من ذلك .. متى استطاعت الأنظمة العربية منذ الستين عاما ونيف التي انقضت على سرقة الأرض الفلسطينية عام 48 وقيام الكيان العبري عليها، أن تتصدى بجدية للصهيونية العالمية وحلفائها لاسترداد الحقوق العربية؟.
إن من المؤسف والمؤلم حقاً، أن نرى النظام العربي الرسمي وقد أظهر خلال الثلاثة عقود الماضية، استعداداً غريباً وغير مبرر لتطبيع علاقاته مع الكيان العبري، بحيث بات من الأمور المسلم بها أن نرى هذا الكيان وقد حظي على غطاء الشرعية في وجوده من العرب وبخاصة من الراحل عرفات، ما يعني التسليم بادعاءات الصهيونية التي تقول بأن أرض فلسطين التاريخية هي أرض يهودية، ولا يحق لسكانها الفلسطينيين أن يطالبوا باستعادة أراضيهم وأملاكهم التي سلبت منهم عام 48 أو في ما بعده، لأن وجودهم فيها لا يزيد- في نظر الصهاينة- عن وجود الجاليات الغريبة!!.
يعلم وزراء الخارجية العرب قبل غيرهم، أن الدافع وراء قبول النظام السوري بالمبادرة العربية وتوقيعه على بروتوكول المراقبين الذين سيتولون مراقبة وتنفيذ هذه المبادرة، يكمن في تناقص رصيده السياسي على المستويات العربية والإقليمية والدولية، وفي حرصه على استغلال المهل التي منحتها له الجامعة العربية في كسب الوقت على أمل أن ينجح في قمع المظاهرات ويتمكن من القضاء على المنشقين عن الجيش، فضلاً عن تزايد العقوبات الاقتصادية والسياسية العربية والدولية عليه، ثم أخيراً وليس آخراً، تلويح لجنة المتابعة العربية الخاصة بالأزمة، بتحويل الملف السوري لمجلس الأمن الدولي. ولعل الدافع الأخير كان الأكثر إقناعاً للنظام السوري بأنه لم يعد للجامعة العربية ما تستطيع تقديمه من عون له، ما دفعه للتوقيع مؤخراً على بروتوكول المراقبين.
وهنا يأتي السؤال الحاسم .. هل كان تناول الجامعة العربية والنظام السوري للأزمة، نابعاً عن قناعتهما بإمكان الوصول إلى حل للأزمة؟. نستطيع أن نجزم بأن أيا منهما يعلم جيداً: أن لا حل لهذه الأزمة إلا بتحقيق أحدهما (النظام والشعب) انتصارٍ حاسمٍ على الآخر، كما ذكرنا.
وما دام الأمر كذلك، فلماذا إذن هذه المهل التي منحتها الجامعة العربية للنظام، والتي استغلها الأخير في تكثيف استخدامه لأقصى أنواع العنف في التعامل مع المتظاهرين؟!!!! ، بل إن هذا العنف طال الأحياء السكنية التي تعرضت ولا تزال، لقصف دبابات الجيش السوري وصواريخه، ما أوقع المئات من الشهداء في صفوف السكان الذين وجدوا جدران بيوتهم وأسقفها تتساقط على رءوسهم!!!.
هل تريد الجامعة العربية من طرحها لمبادرتها أن تقول للشعوب العربية: إننا بذلنا الجهد وراء الجهد، كي يحل السلام ربوع سوريا .. لكن .. عذراً، لم نستطع .. والسلام ختام؟!! ..
إنه لقولٌ حق .. "فاقد الشيء لا يعطيه".
هل تعتقد الانظمة التي تمثلها الجامعة العربية أن المجتمع الدولي أو الدول المهيمنة على مجلس الأمن، تحتاج لإذن منها إذا ما رأت أن مصلحتها تدعوها للتدخل عسكريا في الأزمة؟ .. و(أيضاً)، هل تعتقد هذه الأنظمة أن بشار الأسد، كان ليُقْدِم على ارتكاب هذه الجرائم البشعة بحق شعبه .. لولا أنه مدرك تماما، أن التدخل الدولي أو الإقليمي أو العربي المسلح، أو إقامة مناطق عازلة تعيق تحرك قواته ضد الثائرين على نظامه، أمر غير وارد، وبخاصة في ظل الظروف الدولية الراهنة؟!!.
الحقيقة التي يجب أن تدركها الشعوب العربية بعامة والشعب السوري بخاصة، أن انتزاعها لحريتها وكرامتها من أيدي حكامها المستبدين، لن يتحقق إلا بدفع الثمن غالياً. والثمن هنا هو دفع المزيد من الدماء الطاهره التي يسقي بها الشهداء تراب الأوطان، ويدفع عنها غائلة الحكام المستبدين الفاسدين والمفسدين، حتى يتحقق لهم النصر. ولا نحسب أن هناك طريقاً آخر أمام الشعب السوري المناضل لأسباب يعرفها هو ويقدرها حق قدرها. كما نتمنى على من يصفون أنفسهم بالمقاومة الخارجية أن يتوقفوا عن المزايدان، وأن يحترموا الدما التي ما زالت تسيل لتخصب أرض سوريا بأكاليل الفخر والعزة والكرامة.
فيا أخي السوري المجاهد تذكر المثل القائل "ما حك جلدك غير ظفرك" .. كان الله في عونكم .. والله المستعان.