البابا يعيد ذكرى "فرنسيس الأسيزي" بزمن الحروب الصليبية البابا شنودة الثالث جدد صلات الكنيسة الشرقيةبروما زيارات متلاحقة للأزهر والكنيسة مدا للجسور مع الفاتيكان الطيب: السياسة الغاشمة ومصانع الموت تزكي نيران التطرف "لا إكراه في الدين" و"لتعارفوا" منهج تسامح قرآني بابا الفاتيكان: ما قيمة امتلاء دور العبادة إذا كانت القلوب خاوية؟! فرنسيس : التاريخ لن يغفر لمن ينادون بالعدالة ويظلمون المختلف عنهم الحوار لم يعد ترفا ..والإسلام ختام حلقة ديانات تدعو للإصلاح بعد 800 عام على زيارة القديس فرنسيس إلى مصر والتي بدأت بالتبشير وانتهت بالحوار مع السلطان الكامل الأيوبي إبان الحروب الصليبية، قرر بابا الفاتيكان الذي يحمل اسمه أن "يحج إلى مصر من أجل السلام" حسبما أكد خلال الساعات الأولى لزيارته، في رسالة صادمة للمتطرفين الذين ينشرون الرعب حول العالم باسم الأديان. والزيارة كما هو معلوم تبدد حالة القطيعة المؤقتة التي دامت 7 سنوات، وأعقبت تصريحات البابا بنيدكت السادس عشر المسيئة للإسلام عام 2006، رابطا إياه بالعنف والإرهاب، ومن ثم ألغى الأزهر حوار بين الأديان مع الفاتيكان احتجاجا على دعوة البابا بنيدكت لحماية الأقليات الدينية بالشرق الأوسط، وما يعنيه من تدخل عسكري غربي محتمل، وجاء ذلك ردا على تفجيرات كنيسة القديسين المؤسفة 2011. وسبق تلك القطيعة زيارة تاريخية أخرى قام بها البابا يوحنا بولس الثاني، لمصر في عام 2000 والتقى بالرئيس مبارك والبابا شنودة الثالث بطريرك الكرازة المرقسية المتنيح، وقال شنودة آنذاك أن مصر هي الدولة الوحيدة التي زارها السيد المسيح وباركها مع العائلة المقدسة، وأنها البلد التي أسست نظام الرهبة والأديرة ، وردد بولس حينها مقولة الزعيم الوطني مكرم عبيد "إن مصر بلد لا نعيش فيه بل هي بلد يعيش فينا" . وكان البابا شنودة قد سافر للبابا بولس السادس في الفاتيكان في 4 مايو 1973 أيضا ليسجل أول بادرة حوار حديثة بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية بعد مجمع خلقيدونية الشهير عام 451 م يقوم بها بابا الإسكندرية مع روما . وهو نفس اليوم الذي اختاره البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية في زيارته للفاتيكان 2013، أي قبل أربعة أعوام . كما شهد العام الماضي زيارة تاريخية قام بها شيخ الأزهر د. أحمد الطيب للفاتيكان، حيث التقى البابا فرنسيس، وانخرطا بحوار مشترك لإنهاء التوترات مع العالم الإسلامي. لكن الأمر الهام أن هذا اللقاء يعيد للأزهر هيبته ومكانته العلمية والدينية عالميا كقبلة للإسلام الوسطي المعتدل، وهو وإن شاب أداءه الركود أحيانا، لكن العالم يثبت تبجيله الشديد لدوره ولحقيقة أن أية خارطة للسلام العالمي لا يمكن أن ترسم بعيدا عن أروقته. وهو نفس ما يمكن قوله عن الدولة المصرية كشريك رئيسي بأي حوار من شأنه نبذ العنف وإحداث نهضة بإفريقيا والعالم العربي والشرق الأوسط، لما تحظى به من إحداثيات التاريخ والجغرافيا والثقل البشري. فرنسيس والكامل .. حوار الشجعان في زيارته أمس لمصر قال بابا الفاتيكان : "لسنوات عديدة كنت أتطلع للاحتفال بالعيد الألفين لمولد السيد المسيح عيسى وذلك من خلال زيارة الأماكن المقدسة والمرتبطة بصفة خاصة بتدخل الله في التاريخ.. إن حجي يأتي بي اليوم إلى مصر فشكراً للسيد الرئيس لأنك جعلت من الممكن لي أن أحضر إلى هنا وأن أتوجه حيث أظهر الله اسمه إلى موسى كعلامة لكرمه وطيبته نحو مخلوقيه". من اللوحات العالمية المعبرة عن فرنسيس وقال بابا الفاتيكان : إن مصر ونشاطها الكبير للكنيسة، ومؤسسها القديس مرقس، لا يقل عن القديس بطرس، حبًا وشجاعة في الدين" في إشارة للكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية. وقد ربط البابا بين رحلته امس ورحلة سميَه قبل قرون طويلة القديس فرنسيس،والذي أهداه إليه البابا تواضروس على هيئة تمثال مجسم صغير تخليدا لرسالة اللاعنف. وحين نعود لعام 1219م سنرى القديس فرنسيس الأسيزي والذي سميت باسمه مجموعة الرهبان الفرنسيسكان،و المعروف بالتسامح ومحبة الفقراء، وهو يتغلب على رفض رجال الدين بروما ويطلب السفر للأراضي المقدسة بزمن الحروب الصليبية، رافعا شعار المحبة بديلا للسيف، وهي رسالة كانت تحمل بطياتها طابعا إنسانيا يرفض الدماء المستباحة من قبل أبناء المسيحية تجاه المسلمين ، والتي اتخذت من الصليب شعارها، بنهج مغاير لأقوال السيد المسيح عليه السلام، ولكن رسالته أيضا كانت تحمل طابعا دينيا تبشيريا يستهدف نشر المسيحية بالشرق عبر وسائل غير عنيفة وتعتمد مبدأ الحوار . وبالفعل سافر فرنسيس أحد مؤسسي الرهبانية بالكنيسة الكاثوليكية الغربية، وفي طريقه للقدس، وتحديدا بمحطة وصوله لدمياط، التقى السلطان "الكامل الأيوبي" - الذي كان يحكم الأرض المقدّسة - والأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي، والذي خالف مستشاريه حين طالبوه بإعدام رسول المسيحية، وأحسن ضيافته، داعيا إياه لتكرار الزيارة لمصر، وذلك مع اعتزازه بدين الإسلام ورفضه محاولات إقناعه بغيره. أما فرنسيس فقد أُعجب بالأذان الإسلامي والصلوات، ورأى أنها معبرة عن خشية الله ، داعيا لدق نواقيس الكنائس بوقت واحد من أجل السلام بين أبناء الديانتين، بغير إكراه لأي منهم على الدخول بدين الآخر . ومن هنا جاء حوار عقلاني يحقن الدماء ويعيد شريعة التسامح للتطبيق على الأرض بين أبناء الرسالات السماوية. وفي عام 1214م كتبَ فرنسيس "نشيد الخلائق" أمّا صلاة القدّيس فرنسيس الأسيزي فهي تُلخّص دعوته للسلام والمحبّة" وقد ظل يردد فكرة التعايش على أساس من الالتزام الديني لكل طرف، والحوار العقلاني في الوقت ذاته. ويُقال إن الملك الكامل قد دعا فرنسيس للصلاة معه في أحد المساجد فلم يتردد القديس في الاستجابة لتلك الدعوة, وقال: "إنني سأدعو, .. ربي, فالله في كل مكان"!.. لا إكراه في الدين وجه شيخ الأزهر رسالة محكمة للعالم بمؤتمر السلام الدولي الذي شهد منصته بابا الفاتيكان في زيارته أمس، وركزت على تاريخ البشرية المجلل بالدماء والحروب، حتى أن الأديان الإلهية صارت البشرية تفزع إليها كما تفزع الطيور المذعورة إلى أعشاشها الآمنة الحصينة.. وأكد أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم "لَيْسَت دِينًا مُنْفَصِلًا مُسْتَقِلًّا عَن رِسَالَةِ عيسى وموسى وإبراهيم ونَوح عليهم السَّلام؛ وإنَّمَا هو حَلقةٌ أخيرةٌ في سِلسلَةِ الدِّينِ الإلهي الواحد الذي بدأ بآدم وانتهى بنبيِّ الإسلام، وأن هذه الرِّسالات من أولِها إلى آخرِها تتطابَق في مُحتَواهَا ومضمونها ولا تختلِف إلَّا في بابِ التَّشريعات العمليَّة المُتغيِّرة، فلكلِ رسالة شَريعة عَمَلِيَّة تناسبُ زمانها ومكانها والمؤمنين بها.." واستوجبت كلمة شيخ الأزهر تبرئة الأديان السماوية الثلاثة من الإرهاب، مهما استغلت طوائف منهم بعض النصوص وأولوها بالخطأ لإراقة الدماء واغتصاب الأرض ، مؤكدا أن الإرهاب ظاهرة سياسية وليست دينية، مرجعا إياها إلى تجارة السلاح، المتبوعة بقرارات دولية طائشة. ودعا "الطيب" في إشارات دالة إلى تضافر جهود العالم لإظهار قيمة السلام والتراحم بين الشعوب كافة، لإنقاذ المستضعفين والمعذبين فى الأرض دون تمييز، وإنقاذ كيان الأسرة من انفلات الأخلاق. وعن حقيقة الإسلام، يبرز "الطيب" أن الاختلاف سنة الله في عباده، وهو ما يترتب عليه "حرية الاعتقاد" والقرآن صريح بتقرير ذلك لقوله تعالى "لا إكراه في الدين" فكيف يجيء من يقول بأن المسلمين حاربوا وقتلوا الآلاف لإجبار الآخرين على الإسلام ؟! وقد جاء بالقرآن الكريم عن أسس الحوار مع المختلفين معنا بالعقيدة : ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ . يؤكد الإمام بكلمته الهامة أن الإسلام لا يقاتل تحت بند الكفر، بل تحت بند العدوان، وتحت هذا البند لا يبالي القرآن إن كان يقاتل معتدين كُفارًا أو معتدين مؤمنين: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ . ويختم الطيب بالقول : الإرهاب الأسود الذي يحصد أرواح المسلمين في الشرق أيًّا كان اسمه ولقبه واللافتة التي يرفعها لا تعود أسبابه إلى شريعة الإسلام ولا إلى قرآن المسلمين، وإنما ترجع أسبابه البعيدة إلى سياسات كبرى جائرة اعتادت التسلُّط والهيمنة والكيل بمكيالين؟ الانفتاح على الآخر عظات كثيرة تلك التي تحدث بها بابا الفاتيكان لجموع العالم وخصوص المصريين والأقباط، وتفرقت كلماته بين الكلية الإكليريكية والكنيسة الأرثوذكسية والقداس المقام باستاد الاتحادية. وفكرة الانفتاح على الآخر مع حفظ الحقوق والحريات لم تفارق البابا المعروف عموما بتقبله لدرجة واسعة من الاختلاف حتى ما كان مخلا بالشرف كالمثلية والالحاد في الغرب، لكن البابا كان في سابقة فريدة أول من اعتذر عن الحروب الصليبية التي قتلت آلاف المسلمين. وهو يعتبر الدين جزء من الحل وليس هو الإرهاب، بل هو المحبة، يقول: من الضروري أن نرتفع بروحِنا إلى العلى كي نتعلّم كيف نبني مدينةَ البشر. وعلى المسئولين الدينيين فضح المتسترين تحت عباءته لممارسة العنف. وفي القداس قال البابا: إن خبرة "تلميذيّ عمّاوس" تعلّمنا أنّه لا جدوى من أن نملأ دور العبادة إن كانت قلوبنا خاوية من مخافة الله ومن حضوره؛ تعلّمنا أنه لا جدوى من الصلاة إن لم تتحوّل صلاتنا الموجّهة لله إلى محبّة موجّهة للإخوة بالانسانية؛ فالله يفضّل عدم الإيمان على أن يكون الشخص مؤمنا مزيّفا، ومنافقا! الإيمان يقودنا إلى شجاعة المغفرة لمَن يسيء إلينا، وشجاعة مساعدة من يسقط، وإكساء العريان، وإطعام الجائع، وزيارة المسجون، ومساعدة اليتيم، وإرواء العطشان، وتقديم العون للمسنّ وللمحتاج وإن الإيمان الحقيقيّ هو ذاك الذي يحملنا على حماية حقوق الآخرين، بنفس القوّة والحماس اللذين ندافع بهما عن حقوقنا. في الحقيقة، كلّما ازداد الإنسان إيمانًا ومعرفة، كلّما ازداد تواضعًا وإدراكًا لكونه صغيرًا. وخاطب فرنسيس الكرادلة بقوله: كونوا نورًا ومِلحًا لهذا المجتمع؛ كونوا المُحَرّك الذي يجر القطار إلى الأمام، صوب الهدف مباشرة؛ كونوا باذري رجاء، وبُناة جسور، وفاعلي حوار وتوافق. وقد حذر بابا الفاتيكان بعظاته من داءات الانجراف مع التيار و الأنانية والتكبر و"التفرعن" ومقارنة النفس بالآخرين او السير بالحياة بدون رؤية فتحل الدنيا محل الله بقلبه. وفي الكاتدرائية المرقسية، قال للشهداء :"آلامكم توحدنا" .وأضاف في مؤتمر جمعه بالرئيس المصري الذي استقبله بحفاوة، بقوله أنَّ "التاريخ لا يغفر لأولئك الذين يُبشِّرون بالعدالة ثم بعد ذلك يمارسون الظُلم، وأنَّ التاريخ لا يغفر لأولئك الذين يتحدَّثون عن العدالة، ثم بعد ذلك ينبذون أولئك الذين يختلفون عنهم". قائلا باللغة العربية : «تحيا مصر، أم الدنيا». و عُرف فرنسيس بميوله المناهضة للرأسمالية، وربما شجعه على ذلك نشأته اللاتينية حيث الثورات الاشتراكية ولكنه ينفي ذلك الانحياز مشيرا الى ان الرأسمالية تزيد الفجوة وتهدد العالم، لهذا لم يكن مستغربا ان يؤكد على الفقر والاستغلال كدافعين للتطرف، متفقا مع الشيخ الطيب على أنه من الضروري وقف انتشار الأسلحة وهتف البابا: "لا بد من رفض البربرية التي تدعو للعنف، ويجب تنشئة الأجيال التي تستجيب للمنطق وزيادة الخير"، مشيرا إلى أن الشباب "مثل الأشجار، ينمون ويتعاونون مع الآخر ويتمكنون من تغيير الهواء الملوث بالكراهية إلى الأكسجين النقي للأخوة.. إننا مدعوون مسيحيون ومسلمون على المساهمة في ذلك الأمر